فصل: تفسير الآيات رقم (49- 51)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 16‏]‏

‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ‏(‏13‏)‏ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏15‏)‏ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

ولما كان هذا القدر من العلم موجباً للانقياد لكل خير من الوحدانية وغيرها، والإقبال على الحق في كل أمر، فكان المتمادي على إعراضه قبل الوعظ به كأنه جدد إعراضاً غير إعراضه الأول، قال مفصلاً بعض قوله ‏{‏فأعرض أكثرهم‏}‏‏:‏ ‏{‏فإن أعرضوا‏}‏ أي استمروا على إعراضهم، أو أعرض غيرهم عن قبول ما جئتهم به من الذكر بعد هذا البيان الواضح في هذه الآيات التي دلت على الوحدانية والعلم والقدرة وغيرها من صفات الكمال أتم دلالة ‏{‏فقل‏}‏ أي لهم‏:‏ إن لكم سلفاً سلكتم طريقهم في العناد، فإن أبيتم إلا الإصرار ألحقناكم بهم كأمثالهم وهو معنى ‏{‏أنذرتكم صاعقة‏}‏، أي حلول صاعقة مهيأة لمن كشف له الأمر فعاند، فإن وظيفة الحجة قد تمت على أكمل الوجوه، قال البغوي وابن الجوزي‏:‏ والصاعقة المهلكة من كل شيء- انتهى‏.‏ والحاصل أنه عذاب شديد الوقع كأنه في شدة وقعه صاعقة‏.‏

ولما كان التخويف بما تسهل مشاهدة مثله أوقع في النفس قال‏:‏ ‏{‏مثل صاعقة عاد وثمود *‏}‏ أي الذين تنظرون ديارهم وتستعظمون آثارهم، وعلل إيقاع ذلك بهم بقوله‏:‏ ‏{‏إذا‏}‏ ويجوز أن يكون ظرفاً لصاعقة وظرفيته لا تنافي عليته أي حين ‏{‏جاءتهم الرسل‏}‏ لأن الزمان الطويل يجوز نسبة ما وقع في جزء منه إليه، ولما كانت الرسل إنما أتت بالفعل في بعض الزمان أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بين أيديهم‏}‏ أي من قبلهم لأن النذير الأول نذير لكل من أتى بعده بأنه إن واقع ما واقعه أتاه ما عذب به ‏{‏ومن خلفهم‏}‏ وهم من أتى إليهم لأنهم لم يكونوا يعلمون إتيانهم، فالخلف كناية عن الخفاء، والقدام عن الجلاء، ولا شك أن الإنسان لما انقاد له من قبله فسمعه منه أقبل مما رآه بعينه، لأن النفس لا تنقاد لما خالفها إلا بعد جدال وجهاد، فإذا تطاول الزمن وانقاد له الغير، سهل عليها الأمر، وخف عليها الخطب، وأيضاً الآتي إلى ناس إنما يأتيهم بعد وجودهم وبلوغهم حد التكليف، فهو بهذا آتٍ إليهم من ورائهم أي بعد وجودهم أو يكون ما بين الأيدي هو من جاءهم لأنهم علموا بمجيئه علم من ينظر من قدامه، وما خلفهم ما غاب عنهم ممن تقدمهم، فلم تنقل إليهم أخبارهم إلا على وجوه تحتمل الطعن، أو المعنى‏:‏ أتاهم رسولهم الذي هو بإظهار المعجزة كجميع الرسل بالوعظ من كل جانب يخفى عليهم أو يتضح لهم وأعمل فيهم كل حيلة بكل حجة حتى لم يدع لهم شبهة، ثم بين أن مجيء الرسل ينفي عبادة غير الله وقصر العبادة عليه، فقال مظهراً مع العبادة الاسم الذي هو أولى بها‏:‏ ‏{‏أن‏}‏ أي بأن قولوا لهم ‏{‏لا تعبدوا إلا الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال‏.‏

ولما كان هذا موضعاً لتشوف السامع إلى خبرهم عند ذلك إجابة بقولهم‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي كل منهم‏:‏ ‏{‏لو شاء ربنا‏}‏ أي والذي ربانا أحسن تربية وجعلنا من خواصه بما حبانا به من النعم أن يرسل إلينا رسولا ‏{‏ملائكة‏}‏ فأرسلهم إلينا بما يريده منا لكنه لم ينزل ملائكة فلم يشأ أن يرسل رسولاً، فتسبب عما قالوه من القياس الاستثنائي الذي استنتجوا فيه من نقيض تاليه نقيض مقدمه، لما جعلوا بين المقدم والتالي من الملازمة بزعمهم قولهم‏:‏ ‏{‏فإنا بما‏}‏ أي بسبب الذي ولما كانوا لم ينكروا مطلق رسالتهم، إنما أنكروا كونها من الله، بنوا للمجهول قولهم مغلباً تعالى في الترجمة عنهم للخطاب على الغيبة لأنه أدخل في بيان قلة أدبهم‏:‏ ‏{‏أرسلتم‏}‏ أي أيها الرسل ومن كان على مثل حالهم من البشر ‏{‏به‏}‏ أي على ما تزعمون خاصة لا بغير ما أرسلتم به مما أنزل به ملائكة مثلاً ‏{‏كافرون *‏}‏ لأن قياسنا قد دل على أنه تعالى لم يشأ الإرسال، فأنتم لستم بمرسل عنه لأنكم بشر لا ملائكة وقد كذبوا في قياسهم الذي لم يأخذوه عن عقل ولا نقل لأنه لا ملازمة بين مشيئة الإرسال إلى الناس كافة أو إلى أمة منهم وبين أن يكون المرسل إليهم كلهم ملائكة‏.‏

ولما جمعهم فيما اجتمعوا فيه حتى كأنهم تواصوا به، فصل ما اختلفوا فيه فقال مسبباً عما مضى من مقالهم‏:‏ ‏{‏فأما عاد‏}‏ أي قوم هود عليه الصلاة والسلام ‏{‏فاستكبروا‏}‏ أي طلبوا الكبر وأوجدوه ‏{‏في الأرض‏}‏ أي كلها التي كانوا فيها بالفعل وبقيتها بالقوة، أو في الكل بالفعل لكونهم ملكوها كلها‏.‏ ولما كان الكبر قد يكون بالحق كما على من خالف أمر الله قال‏:‏ ‏{‏بغير الحق‏}‏ أي الأمر الذي يطابقه الواقع، وهو إنكار رسالة البشر، فإن الواقع إرسالهم ‏{‏وقالوا‏}‏ أي وضموا إلى استكبارهم على قبول ما جاءهم من الحق أن قالوا متعاظمين على أمر الله بما أتاهم الله من فضله‏:‏ ‏{‏من أشد منا قوة‏}‏ فنحن نقدر على دفع ما يأتي من العذاب الذي يهددنا به هود عليه الصلاة والسلام لأنهم كانوا أشد الناس قوى وأعظمهم أجساماً‏.‏

ولما كان التقدير أن يقال إنكاراً عليهم‏:‏ ألم يروا أن الله لو شاء لجعلهم كغيرهم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏أو لم يروا‏}‏ أي يعلموا علماً كما هو كالمشاهدة لأنه غريزة في الفطرة الأولى فهو علم ضروري ‏{‏أنّ الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ‏{‏الذي خلقهم‏}‏ ولم يكونوا شيئاً ‏{‏هو أشد منهم قوة‏}‏ ومن علم أن غيره أقوى منه وكان عاقلاً انقاد له فيما ينفعه ولا يضره، واجتماع قوتهم التي هي شدة البنية وقوته سبحانه التي هي كمال القدرة وهي صفة قائمة بذاته سبحانه إنما هو في الآثار الناشئة عن القوة، فلذلك جمعاً بأشد‏.‏

ولما بين أنهم أوجدوا الكبر، عطف عليه من غرائزهم ما هو أصل لكل سوء، فقال مبيناً قرط جهلهم باجترائهم على العظمة التي شأنها قصم الظالم وأخذ الآثم‏:‏ ‏{‏وكانوا‏}‏ أي طبعاً لهم ‏{‏بآياتنا‏}‏ على ما لها من العظمة بنسبتها إلينا ‏{‏يجحدون *‏}‏ أي ينكرون إنكاراً يضمحل عنده كل إنكار عناداً مع علمهم بأنها من عندنا ‏{‏فأرسلنا‏}‏ بسبب ذلك على ما لنا من العظمة، ودل على صغارهم وحقارتهم بأداة الاستعلاء فقال‏:‏ ‏{‏عليهم‏}‏ وزاد في تحقيرهم بأن أخبر أنه أهلكهم لأجل ما تعززوا به من قوة أبدانهم ووثاقة خلقهم بما هو من ألطف الأشياء جسماً وهو الهواء فقال‏:‏ ‏{‏ريحاً‏}‏ أي عظيمة ‏{‏صرصراً‏}‏ أي شديدة البرد والصوت والعصوف حتى كانت تجمد البدن ببردها فتكون كأنها تصره- أي تجمعه- في موضع واحد فتمنعه التصرف بقوته، وتقطع القلب بصوتها، فتقهر شجاعته، وتحرق بشدة بردها كل ما مرت عليه‏.‏

ولما تقدم في هذا السياق استكبارهم على الوجه المذكور وادعاؤهم أنهم أشد الناس قوة اقتضى الحال تحقيرهم في إهلاكهم، فذكر الأيام دون الليالي وإن تضمنتها فقال تعالى‏:‏ ‏{‏في أيام‏}‏ ولما كان جمع القلة قد يستعار للكثرة حقق أن المراد القلة بوصفه بجمع السلامة فقال‏:‏ ‏{‏نحسات‏}‏ وكان ذلك أدل على هذا المراد من إفراد اليوم كما في القمر لأنه قد يراد به زمان يتم فيه أمر ظاهر ولو طالت مدته، ويصح للجنس فيشمل مع القليل ما يصلح له جمع الكثرة‏.‏ وفيه- مع أنه نذارة- رمز للمنزل عليه هذا الوحي صلى الله عليه وسلم بأعظم بشارة لما أومأ إليه افتتاح السورة باسمي الرحمة، وقوله تعالى ‏{‏بشيراً ونذيراً‏}‏ ومن جعل أيام هذا العذاب ثمانية، أشار إلى الحلم والتأني كما أشار إليه ما تقدم من خلق هذا الوجود في ستة أيام، وقد كان قادراً على كل من التعذيب والإيجاد في لحظة واحدة، فأشار ذلك إلى أنه في السنة السادسة من الهجرة يكون الفتح السببي بعمرة الحديبية التي كانت سبب نزول سورة الفتح، وفي السابعة يكون الاعتمار الذي كان عليهم أشد من وقوع الصارم البتار، حتى ذهب عمرو بن العاص من أجل ذلك إلى الحبشة لئلا يرى من دخول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ما لا صبر له عليه، وفي الثامنة يكون الفتح الحقيقي بعشرة آلاف مقاتل أكثرهم دارع لا يُرى منهم إلا الحدق، حتى خالوا بياض لأمهم السراب، فظنوا بهم غاية العذاب، فكانوا رحمة، وعاد رأوا السحاب فظنوه رحمة فكان عذاباً ونقمة، ووصفها بالنحس مبالغة مثل رجل عدل ليدل على أنها كانت قابلة لانفعال الجسد وما كان فيه من القوى بهذه الريح، وهو مصدر جمع لاختلاف أنواع النحس فيها- هذا على قراءة الجماعة بسكون الحاء، وأما قراءة ابن عامر والكوفيين بكسر الحاء فهي صفة من فعل بالكسر مثل‏:‏ فرح فهو فرح، وأول هذه الأيام الأربعاء في قول يحيى بن سلام، وقال غيره‏:‏ وما عذب قوم إلا يوم الأربعاء ‏{‏لنذيقهم‏}‏ وأضاف الموصوف إلى صفته على المبالغة من وادي رجل عدل فقال‏:‏ ‏{‏عذاب الخزي‏}‏ أي الذي يهيئهم ويفضحهم ويذلهم بما تعظموا وافتخروا على كلمة الله التي أتتهم بها رسله، وصف العذاب بالخزي الذي هو للمعذب به مبالغة في إخزائه له ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ ليذلوا عند من تعظموا عليهم في الدار التي اغتروا بها فتعظموا فيها فإن ذلك أدل على القدرة عند من تقيد بالوهم ‏{‏ولَعذاب الآخرة‏}‏ الذي أعد للمتكبرين ‏{‏أخزى‏}‏ أي أشد إخزاء كما قالوا‏:‏ هو أعطاهم للدراهم وأولادهم للمعروف، وأكد لإنكارهم له‏.‏

ولما انتفت مدافعتهم عن أنفسهم، نفى دفع غيرهم فقال‏:‏ ‏{‏وهم‏}‏ أي أصابهم هذا العذاب وسيصيبهم عذاب الآخرة والحال أنهم ‏{‏لا يُنصرون *‏}‏ أي لا يوجد ولا يتجدد لهم نصر أبداً بوجه من الوجوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 21‏]‏

‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏17‏)‏ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏18‏)‏ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏19‏)‏ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏20‏)‏ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

ولما أنهى أمر صاعقتهم، شرع في بيان صاعقة ثمود فقال‏:‏ ‏{‏وأما ثمود‏}‏ وهم قوم صالح عليه الصلاة والسلام ‏{‏فهديناهم‏}‏ أي بينا لهم طريق الهدى من أنا قادرون على البعث وعلى كل شيء فلا شريك لنا، وكان بيان ذلك بالناقة غاية البيان فأبصروا ذلك بأبصارهم التي هي سبب أبصار بصائرهم غايه الإبصار، فكرهوا ذلك لما يلزمه من تنكب طريق آبائهم وأقبلوا على لزوم طريق آبائهم‏:‏ ‏{‏فاستحبوا العمى‏}‏ اي الضلال الناشئ عن عمى اليصر أو البصيرة أو هما معاً ‏{‏على الهدى‏}‏ أي أوجدوا من الأفعال والأقوال ما يدل على حب ذلك وعلى طلب حبه فعموا فضلوا، وقال القشيري‏:‏ قيل‏:‏ إنهم آمنوا وصدقوا ثم ارتدوا وكذبوا، فأجراهم مجرى إخوانهم في الاستئصال‏.‏ ‏{‏فأخذتهم‏}‏ أي بسبب ذلك أخذ قسر وهوان ‏{‏صاعقة العذاب‏}‏ وأبلغ في وصفه بجعله نفس الهون فقال‏:‏ ‏{‏الهون‏}‏ أي ذي الهون، قامت ضمته مقام ما في الهوان من الصيغة فعلم أن المراد أنه المهين المخزي ‏{‏بما كانوا‏}‏ أي دائماً ‏{‏يكسبون *‏}‏ أي يتجدد تحصيلهم له وعدهم له فائدة، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الهداية أولاً دليلاً على حذف الضلال ثانياً والعمى ثانياً دليلاً على حذف الإبصار أولاً، وسره أنه نسب إليه أشرف فعليه، وأسند إليهم ما لا يرضاه ذو الروح‏.‏

ولما أتم الخبر عن الكافرين من الفريقين، أتبعه الخبر عن مؤمنيهم بشارة لمن اتبع النبي صلى الله عليه وسلم ونذارة لمن صد عنه فقال‏:‏ ‏{‏ونجينا‏}‏ أي تنجية عظيمة ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي أوجدوا هذا الوصف ولو على أدنى وجوهه من الفريقين ‏{‏وكانوا‏}‏ أي كوناً عظيماً ‏{‏يتقون *‏}‏ أي يتجدد لهم هذا الوصف في كل حركة وسكون فلا يقدمون على شيء بلا دليل‏.‏

ولما ذكر حالهم في الدنيا، وأشار إلى حال الآخرة، أتبعه تفصيل ذلك فقال‏:‏ ‏{‏ويوم‏}‏ أي اذكر أيام أعداء الله في الدنيا في إنزال عذابه بهم وإحلال مثلاته بساحاتهم، واذكر يوم يحشرون- هكذا كان الأصل، ولكنه بين ما عذبوا به ليعم كل من اتصف به من الأولين والآخرين فقال‏:‏ ‏{‏يحشر‏}‏ أي يجمع بكثرة بأمر قاهر لا كلفة علينا فيه- هذا على قراءة الجماعة بالبناء للمفعول، وعلى قراءة ناقع ويعقوب بالنون مبنياً للفاعل يكون ناظراً إلى سياق «ونجينا» وفي كلتا القراءتين معنى العظمة، فلذلك ناسبهما الاسم الأعظم الذي هو أعظم من مظهر العظمة الذي وقع الصرف عنه لما في ذكره من زيادة التوبيخ لهم والتهجين لفعلهم والتخسيس لعقولهم في قولهم‏:‏ ‏{‏أعداء الله‏}‏ أي الملك الأعظم ولا يخفى إعرابه بحسب كل قراءة ‏{‏إلى النار‏}‏ دار الأشقياء ‏{‏فهم‏}‏ بسبب حشرهم ‏{‏يوزعون *‏}‏ أي يدفعون ويرد بأيسر أمر أولهم على آخرهم، ومن يريد أن يعرج منهم يميناً أو شمالاً ظناً منه أنه قد يخفى بسبب كثرتهم ويزجرون زجر إهانة، ويجمع إليهم من شذ منهم، ة فإن كل شيء من ذلك نوع من العذاب‏.‏

ولما بين إهانتهم بالوزع، بين غاياتها فقال‏:‏ ‏{‏حتى إذا‏}‏ وأكد الكلام لإنكارهم مضمونه بزيادة النافي ليكون اجتماعه مع الإثبات نفياً للضد فيفيد غاية القوة بمضمون الخبر في تحقيقه وثباته واتصاله بالشهادة على الفور فقال‏:‏ ‏{‏ما جاؤوها‏}‏ أي النار التي كانوا بها يكذبون ‏{‏شهد عليهم‏}‏ حين التكوير فيها مركومين بعضهم على بعض‏.‏ ولما كان في مقام الترهيب، وكان التفصيل أهول قال‏:‏ ‏{‏سمعهم‏}‏ أفرده لتقارب الناس فيه ‏{‏وأبصارهم‏}‏ جمع لعظم التفاوت فيها ‏{‏وجلودهم بما‏}‏ وأثبت الكون بياناً لأنهم كانوا مطبوعين على ما أوجب لهم النار من الأوزار فقال‏:‏ ‏{‏كانوا يعملون *‏}‏ أي يجددون عمله مستمرين عليه، فكأن هذه الأعضاء تقول في ذلك الحين إقامة للحجة البالغة‏:‏ أيها الأكوان والحاضرون من الإنس والملائكة والجان، اعلموا أن صاحبي كان يعمل بي كذا وكذا مع الإصرار، فاستحق بذلك النار، وغضب الجبار- ثم يقذف به‏.‏

ولما أخبر بهذا الذي يفتت الحجارة لو علقت ساعة ما، أخبر أنه لم يفدهم الرجوع عن طبعهم الجافي وبلادتهم الكثيفة، فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فلم تفدهم هذه الشهادة خجلاً من الله ولا خضوعاً في أنفسهم ولا رجوعاً عن الجدال والعناد كما لم يفدهم ذلك مجرد علم الله فيهم‏:‏ ‏{‏وقالوا لجلودهم‏}‏ ودخل فيها ما صرح به من منافعها بها لفقد ما يدعو إلى التفصيل‏.‏ ولما فعلت فعل العقلاء خاطبوها مخاطبتهم فقالوا‏:‏ ‏{‏لم شهدتم علينا‏}‏‏.‏

ولما كان هذا محل عجب منهم، وكان متضمناً لجهلهم بظنهم أنه كان لها قدرة على السكوت، وكان سؤالهم عن العلة ليس على حقيقته وإنما المراد به اللوم، أجيب من تشوف إلى الجواب بقوله معبراً لنطقها بصيغة ما يعقل‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ معتذرين‏:‏ ‏{‏أنطقنا‏}‏ قهراً ‏{‏الله‏}‏ الذي له مجامع العز على وجه لم نقدر على التخلف عنه‏.‏ ولما كان حال الكفار دائماً دائراً بين غباوة وعناد، أقاموا لهم على ذلك دليلين شهوديين فقالوا‏:‏ ‏{‏الذي أنطق كل شيء‏}‏ أي فعلاً أو قوة أو حالاً ومقالاً‏.‏

ولما كانت الأشياء كلها متساوية الأقدام في الإنطاق والإخراس وغيرهما من كل ما يمكن بالنسبة إلى قدرته سبحانه، نبهوهم على ذلك بقولهم‏:‏ ‏{‏وهو خلقكم أول مرة‏}‏ والعلم القطعي حاصل عندكم بأنكم كنتم عدماً ثم نطفاً لا تقبل النطق في مجاري العادات بوجه، ثم طوركم في أدوار الأطوار كذلك إلى أن أوصلكم إلى حيز الإدراك، فقسركم على النطق بحيث لو أردتم سلبه عن أنفسكم ما قدرتم‏.‏ ولما كان الخلق شيئاً واحداً فعبر عنه بالماضي وكان الرجوع تارة بالحس وتارة بالمعنى وكان الذي بالمعنى كثير التعدد بكثرة التجدد قال‏:‏ ‏{‏وإليه‏}‏ أي إلى غيره ‏{‏ترجعون *‏}‏ أي في كل حين بقسركم بأيسر أمر على كل ما يريد من أول ما خلقتم إلى ما لا نهاية له، فلو كان لكم نوع علم لكفاكم ذلك واعظاً في الدنيا تعلمون به أنكم في غاية العجز، وأن له العظمة والكبر والقدرة والقهر، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

«هل تدرون ممّ أضحك‏؟‏ قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ من مخاطبة العبد ربه، يقول‏:‏ يا رب ألم تجرني من الظلم‏؟‏ قال‏:‏ يقول‏:‏ بلى، اقل‏:‏ فيقول‏:‏ فإني لا أجيز إلا شاهداً مني، قال‏:‏ فيقول‏:‏ كفى بنفسك اليوم شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال‏:‏ فيختم على فيه فيقال لأركانه‏:‏ انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول‏:‏ بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنا أناضل»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 26‏]‏

‏{‏وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏23‏)‏ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ‏(‏24‏)‏ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

ولما اعتذروا بما إخبارهم به في هذه الدنيا وعظ وتنبيه، وفي الآخرة توبيخ وتنديم، قالوا مكررين للوعظ محذرين من جميع الكون‏:‏ ‏{‏وما كنتم‏}‏ أي بما هو لكم كالجبلة ‏{‏تستترون‏}‏ أي تتكفلون الستر عند المعاصي وأنتم تتوهمون، وهو مراد قتادة بقوله؛ تظنون‏.‏ ‏{‏أن يشهد عليكم‏}‏ بتلك المعاصي‏.‏ ولما كان المقصود الإبلاغ في الزجر، أعاد التفصيل فقال‏:‏ ‏{‏سمعكم‏}‏ وأكد بتكرير النافي فقال‏:‏ ‏{‏ولا أبصاركم‏}‏ جمع وأفرد لما مضى ‏{‏ولا جلودكم ولكن‏}‏ إنما كان استتاركم لأنكم ‏{‏ظننتم‏}‏ بسبب إنكاركم البعث جهلاً منكم ‏{‏أن الله‏}‏ الذي له جميع الكمال ‏{‏لا يعلم‏}‏ أي في وقت من الأوقات ‏{‏كثيراً مما تعملون *‏}‏ أي تجددون عمله مستمرين عليه، وهو ما كنتم تعدونه خفياً فهذا هو الذي جرأكم على ما فعلتم، فإن كان هذا ظنكم فهو كفر، وإلا كان عملكم عمل من يظنه فهو قريب من الكفر والمؤمن حقاً من علم أن الله مطلع على سره وجهره، فلم يزل مراقباً خائفاً هائباً، روى الشيخان في صحيحيهما واللفظ للبخاري في كتاب التوحيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم، فقال أحدهم‏:‏ أترون أن الله يسمع ما نقول‏؟‏ قال الآخر‏:‏ يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر‏:‏ إن كان يسمع إذا جهرنا فأنه يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله ‏{‏وما كنتم‏}‏- الآية، قال البغوي؛ قيل‏:‏ الثقفي عبد ياليل وختناه، والقرشيان‏:‏ ربيعة وصفوان بن أمية‏.‏

ولما كان ذكر المعصية وما جرأ عليها يقتضي انتقاصاً يقدح في الإلهية، بين أنه الموجب للغضب فقال‏:‏ ‏{‏وذلكم‏}‏ أي الأمر العظيم في القباحة، ثم بينه بقوله‏:‏ ‏{‏ظنكم‏}‏ أي الفاسد، ووصفه بقوله‏:‏ ‏{‏الذي ظننتم بربكم‏}‏ أي الذي طال إحسانه إليكم من أنه لا يعلم حالكم، ثم أخبر عنه بقوله‏:‏ ‏{‏أردناكم‏}‏ أي تسبب عنه خاصة أنه أهلككم‏.‏ وأما معاصي الجوارح مع التوحيد والتنزيه فأمرها أسهل، والحاصل أن كل ظن كان غير مأذون فيه من الشارع فهو يردي صاحبه‏.‏

ولما كان الصباح محل رجاء الأفراح، فكان شر الأتراح ما كان فيه، قال‏:‏ ‏{‏فأصبحتم‏}‏ أي بسبب أن ما أعطيتموه من النعم لتستنقذوا به أنفسكم من الهلاك كان سبب هلاككم ‏{‏من الخاسرين *‏}‏ أي العريقين في الخسارة، المحكوم بخسارتهم في جميع ذلك اليوم، وصوره بأقبح صورة وهو الصباح، فالمعنى أنه إذا صار حالكم حال من أصبح كذلك لم يكن للربح وقت يتدارك فيه بخلاف ما لو وجد ذلك عن المساء فإنه كان ينتظر الصباح للسعي في الربح، ويوم القيامة لا يوم بعده يسعى فيه للربح، فينبغي للمؤمن أن يكون حال خلوته أشد ما يكون هيبة لله‏.‏

ولما كان ذلك، تسبب عنه قوله لافتاً القول عن خطابهم إيذاناً بشدة الغضب وإشارة ألى أنهم لما وصلوا إلى ما ذكر من الحال أعيا عليهم المقال، فلم يقدروا على نطق بلسان، ولا إشارة برأس ولا بنان‏:‏ ‏{‏فإن يصبروا‏}‏ أي على ما جوزوا به فليس صبرهم بنافعهم، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏فالنار مثوى‏}‏ أي منزلاً ‏{‏لهم وإن يستعتبوا‏}‏ أي يطلبوا الرضى بزوال العتب وهو المؤاخذة بالذنب ‏{‏فما هم من المعتبين *‏}‏ أي المرضيين الذين العتب عليهم ليعفي عنهم ويترك عذابهم‏.‏

ولما ذكر وعيدهم في الدنيا والآخرة، أتبعه كفرهم الذي هو سبب الوعيد، وعطفه على ما تقديره‏:‏ فإنا طبعناهم طبيعة سوء تقتضي أنهم لا ينفكون عما يوجب العتب، فأعرضوا ولم تنفعهم النذرى بصاعقة عاد وثمود، فقال صارفاً القول إلى مظهر العظمة إشارة إلى أن التصرف في القلوب أمر عظيم جداً‏:‏ ‏{‏وقيضنا‏}‏ أي جئنا وأتحنا وبعثنا وسببنا ووكلنا وهيأنا، من القيض الذي هو المثل، وقشر البيضة الأعلى اليابس ‏{‏لهم قرناء‏}‏ أي أشخاصاً أمثالهم في الأخلاق والأوصاف أقوياء وهم مع كونهم شديدي الالتصاق بهم والإحاطة في غاية النحس والشدة في اللؤم والخبث واللجاجة فيما يكون به ضيق الخير واتساع الشر من غواة الجن والإنس ‏{‏فزينوا لهم‏}‏ أي من القبائح ‏{‏ما‏}‏ وعم الأشياء كلها فلم يأت بالجار فقال‏:‏ ‏{‏بين أيديهم‏}‏ أي يعلمون قباحته حتى حسنوه لهم فارتكبوه ورغبوا فيه ‏{‏وما خلفهم‏}‏ أي ما يجهلون أمره ولا يزالون في كل شيء يزينونه ويلحون فيه ويكررونه حتى يقبل، فإن التكرير مقرون بالتأثير، قال القشيري‏:‏ إذا أراد الله بعبد سوءاً قيض له إخوان سوء وقرناء سوء يحملونه على المخالفات ويدعونه إليها، وإذا أراد الله بعبد خيراً قيض له قرناء خير يعينونه على الطاعات ويحملونه عليها ويدعونه إليها، ومن ذلك الشيطان، وشر منه النفس وبئس القرين، تدعو اليوم إلى ما فيه الهلاك وتشهد غداً عليه‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فلم يدعوا قبيحة حتى ارتكبوها، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وحق‏}‏ أي وجب وثبت ‏{‏عليهم القول‏}‏ أي بدوام الغضب‏.‏

ولما كان هذا مما يوجب شدة أسفه صلى الله عليه وسلم، خفف منه بقوله‏:‏ ‏{‏في‏}‏ أي كائنين في جملة ‏{‏أمم‏}‏ أي كثيرة‏.‏ ولما عبر عنهم بما يقتضي تعظيمهم بأنهم مقصودون، حقرهم بمضير التأنيث فقال‏:‏ ‏{‏قد خلت‏}‏ أي لم تتعظ أمه منهم بالأخرى‏.‏ ولما كان الخلو قد يكون بالموت في زمانهم، بين أنه مما مضى وفات‏.‏

ولما كان بعض من مضى غير مستغرق لجميع الزمان، عبر ب «من» فقال‏:‏ ‏{‏من قبلهم‏}‏ أي في الزمان، وقدم الأقوى لتفهم القدرة عليه القدرة على ما دونه من باب الأولى، فإن الإنس كانوا يعدون أنفسهم دون الجن فيعوذون بهم فقال‏:‏ ‏{‏من الجن والأنس‏}‏ ثم علل حقوق الشقاء عليهم بقوله منبهاً بالتأكيد على أنهم ينكرون أن تكون القبائح موجبة للخسر ‏{‏إنهم‏}‏ أي جميع المذكورين منهم وممن قبلهم‏:‏ ‏{‏كانوا‏}‏ أي طبعاً وفعلاً ‏{‏خاسرين *‏}‏ فعلى العاقل أن يجتهد في اختيار أصحابه وأخدانه وأحبابه، فإن العاقبة فيهم حسنة جسيمة أو قبيحة وخيمة، روى صاحب الفردوس عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«إذا أراد الله بعبد شراً قيض له قبل موته شيطاناً فلا يرى حسناً إلا قبحه ولا قبيحاً إلا حسنه عنده»‏.‏ ولأحمد وأبي داود والنسائي وأبي يعلى وابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا أراد الله بوالي خيراً جعل له وزير صدق، إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه، وإن أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه»‏.‏ وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما والنسائي عن أبي هريرة وحده رضي الله عنه والبخاري أيضاً عن أبي أيوب رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله تعالى»‏.‏ وفي رواية النسائي‏:‏ «ما من وال إلا وله بطانتان‏:‏ بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً، فمن وقي شرها فقد وقي، وهو إلى من يغلب عليه منهما»، ورواية البخاري عن أبي أيوب نحوها‏.‏

ولما أخبر بخسرانهم، دل عليه بما عطف على ما أرشد إليه السياق من تقديره من وقولي‏:‏ فأعرضوا- أي هؤلاء العرب- وقالوا- هكذا كان ألأصل ولكنه قال تنبيها على الوصف الذي أوجب إعراضهم‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا‏}‏ أي ستروا ما دلتهم عليه عقولهم من الحق ‏{‏لا تسمعوا‏}‏ أي شيئاً من مطلق السماع ‏{‏لهذا القرآن‏}‏ تعييناً بالإشارة احترازاً من غيره من الكتب القديمة كالتوارة، قال القشيري‏:‏ لأنه يغلب القلوب ويسلب العقول، وكل من استمع له صبا إليه ‏{‏وألغوا‏}‏ أي أهذوا من لغي- بالكسر يلغى- بالفتح- إذا تكلم بما لا فائدة فيه ‏{‏فيه‏}‏ أي اجعلوه ظرفاً للغو بأن تكثروا من الخرافات والهذيانات واللغو بالمكاء والتصدية أي الصفير والتصفيق وغيرهما في حال تلاوته ليقع تاليه في السهو والغلط، قال القشيري‏:‏ قالوا ذلك ولم يعلموا أن من نور قلبه بالإيمان وأيد بالفهم وأمد بالبصيرة وكوشف بسماع السر من الغيب، فهو الذي يسمع ويؤمن، والذي هو في ظلمات جهله لا يدخل الإيمان قلبه، ولا يباشر السماع سره‏.‏

‏{‏لعلكم تغلبون *‏}‏ أي ليكون حالكم حال من يرجى له أن يغلب ويظفر بمراده في أن يميل إليه أحد، أو يسكت أو ينسى ما كان يقول، وهذا يدل على أنهم عارفون بأن من سمعه ولا هوى عنده مال إليه وأقبل بكليته عليه، وقد فضحوا أنفسهم بهذا فضيحة لا مثل لها، وذلك لأنهم تحدوا به في أن يأتوا بشيء من مثله ليعدوا غالبين فلم يجدوا شيئاً يترجون به الغلب إلا الصفير والتصفيق ونحوه من اللغو في معارضة ما علا من أعلى ذرى الكلام إلى حيث لا مطمع ولا مرام، فلا يفيد ما أتوا به معنى غير أنهم عاجزون عن المعارضة قاطعون بأنهم متى أتوا بشيء منها افتضحوا، وقطع كل من سمعه بأنهم مغلوبون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 30‏]‏

‏{‏فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏27‏)‏ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏28‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ‏(‏29‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

ولما استحقوا بهذا العقوبة، سبب عن ذلك مؤكداً لإنكارهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلنذيقن‏}‏ وأظهر في موضع الإضمار تعميماً بالوصف فقال‏:‏ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ أي هؤلاء وغيرهم ‏{‏عذاباً شديداً‏}‏ في الدنيا بالحرمان وما يتبعه من فنون الهوان وفي الآخرة بالنيران ‏{‏ولنجزينهم‏}‏ أي بأعمالهم‏.‏ ولما كان من قدر على الأغلظ، قدر على ما دونه قال‏:‏ ‏{‏أسوأ‏}‏ أي جزاء أسوأ العمل ‏{‏الذين كانوا‏}‏ بما هو لهم كالغرائز ‏{‏يعملون *‏}‏ مواظبين عليه‏.‏

ولما أبلغ سبحانه في الترهيب من عقابهم، زاد في تعظيمه وفضله لطفاً لمن أراد هدايته من عباده وإقامة الحجة على غيرهم فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الجزاء الأسوأ العظيم جداً ‏{‏جزاء‏}‏ ولما كانت عداوة من لا يطاق آمراً زائد العظمة، نبه على ذلك بصرف الكلام عن مظهرها إلى أعظم منه فقال‏:‏ ‏{‏أعداء الله‏}‏ أي الملك الأعظم، لأنهم ما كانوا يفعلون ما دون الأسوأ إلا عجزاً عنه لأن جبلتهم تقتضي ذلك، وبينه بقوله‏:‏ ‏{‏النار‏}‏ وفصل بعض ما فيها بقوله‏:‏ ‏{‏لهم فيها‏}‏ أي النار ‏{‏دار الخلد‏}‏ أي المحل المحيط بهم الدائر من غير علم من زاوية أو غيرها يعرف به خصوص موضع منه، مع إيذانه بالدوام واللزوم وعدم الانفكاك، أو هو على التجريد بمعنى‏:‏ هي لهم دار خلود كما كان لهم في الدنيا دار سرور بمعنى أنها كانت لهم نفسها دار لهو وغرور‏.‏

ولما كانوا على أعمالهم التي استحقوا بها هذا العذاب مصرين إصراراً يمتنع انفكاكهم عنه، زاد حسناً قوله‏:‏ ‏{‏جزاء‏}‏ أي وفاقاً ‏{‏بما كانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً، ورد الكلام إلى مظهر العظمة المقتضي للنكال فقال‏:‏ ‏{‏بآياتنا‏}‏ أي على ما لها من العظمة ‏{‏يجحدون *‏}‏ أي ينكرون عناداً من غير مراعاة لعلوها في نفسها ولا علوها بنسبتها إلينا، فلأجل جحودهم كانوا يقدمون على ما لا يرضاه عاقل من اللهو وغيره‏.‏

ولما تراءى لهم أن الذي أوجب لهم هذا السوء جلودهم بالشهادة عليهم وقرناؤهم بإضلالهم لهم وكان التباغض والعداوة قد وقع بين الجميع، فصار تمني كل للآخر السوء زيادة في عذابهم، وكانت مساءة جلودهم مساءتهم، خصوا القرناء بإرادة الانتقام منهم، فحكى سبحانه قولهم بقوله عطفاً على ‏{‏وقالوا لجلودهم‏}‏ أو على ما تقديره‏:‏ فعلموا حينئذ أنهم كانوا على ضلال لتقصيرهم في النظر وتقليدهم لغيرهم‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا‏}‏ أي غطوا أنوار عقولهم داعين بما لو يسمع لهم، فهو زيادة في عقوبتهم، وحكايته لنا وعظ وتحذير‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ أي أيها الذي لم يقطع قط إحسانه عنا ‏{‏أرنا‏}‏ الصنفين ‏{‏اللّذين أضلاّنا‏}‏ عن المنهج الموصل إلى محل الرضوان ‏{‏من الجن والإنس‏}‏ المزينين لنا ارتكاب السوء خفية وجهراً، قرأ الجماعة بكسر الراء من أرنا، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب والسوسي عن أبي عمرو وأبو بكر عن عاصم بإسكان الراء هنا خاصة‏.‏

قال الأصبهاني‏:‏ يحكى عن الخليل أنك إذا قلت‏:‏ أرني ثوبك- بالكسر فالمعنى بصرنيه، وإذا قلته بالسكون فهو استعطاء، ومعناه أعطني ثوبك، ونظيره اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء، وأصله الإحضار- انتهى‏.‏ ‏{‏نجعلهما تحت أقدامنا‏}‏ في النار إذلالاً لهما كما جعلانا تحت أمرهما ‏{‏ليكونا من الأسفلين *‏}‏ أي من أهل الدرك الأسفل وممن هو دوننا كما جعلانا كذلك في الدنيا في حقيقة الحال بإتباعنا لهما فيما أراد بنا، وفي الآخرة بهذا المال، والظاهر أن المراد أن كل أحد يتمنى أن يعرف من أضله من القبيلتين ليفعل بهم ذلك إن قدر عليه‏.‏

ولما ذكر الأعداء وقرناءهم نذارة، أتبعه ذكر الأولياء وأوداءهم بشارة، فقال مبيناً لحالهم القابل للإعراض وثمراته جواباً لمن يسأل عنهم مؤكداً لأجل إنكار المعاندين‏:‏ ‏{‏إن الذين‏}‏ قال أبو حيان‏:‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ نزلت في الصديق رضي الله عنه وأرضاه‏.‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي قولاً حقيقياً مذعنين به بالجنان وناطقين باللسان تصديقاً لداعي الله في دار الدنيا متذللين حيث ينفع الذل جامعين بين الأسّ الذي هو المعرفة والاعتقاد، والبناء الذي هو العمل الصالح بالقول والفعل على السداد، فإن أصل الكمالات النفسانية يقين مصلح وعمل صالح، تعرف الحق لذاته والخير لتعمل له ورأس المعارف اليقينية ورئيسها معرفة الله، ورأس الأعمال الصالحة الاستقامة على حد الاعتدال من غير ميل إلى طرف إفراط أو تفريط‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ أي المحسن إلينا ‏{‏الله‏}‏ المختص بالجلال والإكرام وحده لا شريك له‏.‏

ولما كان الثبات على التوحيد ومصححاته إلى الممات أمراً في علو رتبته لا يرام إلا بتوفيق ذي الجلال والإكرام، أشار إليه بأداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم استقاموا‏}‏ طلبوا وأوجدوا القوام بالإيمان بجميع الرسل وجميع الكتب ولم يشركوا به صنماً ولا ثناً ولا آدمياً ولا ملكاً ولا كوكباً ولا غير بعبادة ولا رياء، وعملوا بما يرضيه وتجنبوا كل ما يسخطه وإن طال الزمان، امتثالاً لما أمر به أول السورة في قوله ‏{‏إنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه‏}‏ فمن كان له أصل الاستقامة في التوحيد أمن من النار بالخلود، ومن كان له كمال الاستقامة في الأصول والفروع أمن الوعيد ‏{‏تتنزل‏}‏ على سبيل التدريج المتصل ‏{‏عليهم‏}‏ من حين نفخ الروح فيهم إلى أن يموتوا ثم إلى أن يدخلوا الجنة باطناً فظاهراً ‏{‏الملائكة‏}‏ بالتأييد في جميع ما ينوبهم فتستعلي الأحوال الملكية على صفاتهم البشرية وشهواتهم الحيوانية فتضمحل عندها، وتشرق مرائيهم، ثم شرح ما يؤيدونهم به وفسره فقال‏:‏ ‏{‏ألا تخافوا‏}‏ أي من شي مثله يخيف، وكأنهم يثبتون ذلك في قلوبهم ‏{‏ولا تحزنوا‏}‏ أي على شيء فاتكم، فإن ما حصل لكم أفضل منه، فأوقاتكم الأخراوية فيها بل هي كلها روح وراحة، فلا يفوتهم لذلك محبوب ولا يلحقهم مكروه ‏{‏وابشروا‏}‏ أي املأوا صدوركم سروراً يظهر أثره على بشرتكم بتهلل الوجه ونعمة سائر الجسد ‏{‏بالجنة التي كنتم‏}‏ أي كوناً عظيماً على ألسنة الرسل ‏{‏توعدون *‏}‏ أي يتجدد لكم ذلك كل حين بالكتب والرسل، وقال الرازي في اللوامع‏:‏ يبشرون في ثلاثة مواضع‏:‏ عند الموت، وفي القبر، ويوم البعث- انتهى‏.‏ وهذا محول على الكلام الحقيقي وما قبله على أنهم يفعلون معه ما ترجمته ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 33‏]‏

‏{‏نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ‏(‏31‏)‏ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ‏(‏32‏)‏ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

ولما أثبتوا لهم الخير، ونفوا عنهم الضير، عللوه بقولهم‏:‏ ‏{‏نحن أولياؤكم‏}‏ أي أقرب الأقرباء إليكم، فنحن نفعل معكم كل ما يمكن أن يفعله القريب ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ نجتلب لكم المسرات ونبعد عنكم المضرات ونحملكم على جميع الخيرات بحيث يكون لكم فيها ما تؤثره العقول بالامتناع مما تهواه النفوس وإن تراءى للرائين في الدنيا أن الأمر بخلاف ذلك، فنوقظكم من المنام، ونحملكم على الصلاة والصيام، ونبعدكم عن الآثام، ضد ما تفعله الشياطين مع أوليائهم ‏{‏وفي الآخرة‏}‏ كذلك حيث يتعادى الأخلاء إلا الأتقياء ‏{‏ولكم فيها‏}‏ أي الآخرة في الجنة وقبل دخولها في جميع أوقات الحشر ‏{‏ما تشتهي‏}‏ ولو على أدنى وجوه الشهوة بما يرشد إليه حذف المفعول ‏{‏أنفسكم‏}‏ لأجل ما منعتموها من الشهوات في الدنيا ‏{‏ولكم‏}‏‏.‏

ولما كان السياق للذين استقاموا العام للسابقين وأصحاب اليمين على ما أشير إليه الختم بصفة المغفرة وتقديمها، قيد بالظرف بخلاف ما في يس فقال‏:‏ ‏{‏فيها‏}‏ أي الآخرة ‏{‏ما تدعون *‏}‏ أي ما تؤثرون دعاءه وطلبه وتسألونه وتمنونه بشهوة نفوسكم ورغبة قلوبكم‏.‏

ولما كان هذا كله بالنسبة إلى ما يعطون شيئاً يسيراً، نبه عليه بقوله‏:‏ ‏{‏نزلاً‏}‏ أي هذا كله يكون لكم كما يقدم إلى الضيف عند قدومه إلى أن يتهيأ ما يضاف به‏.‏ ولما كان من حوسب عذب، فلا يدخل أحد الجنة إلا بالرحمة، أشار إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏من‏}‏ أي كائناً النزل من ‏{‏غفور‏}‏ له صفة المحو للذنوب عيناً وأثراً على غاية لا يمكن وصفها ‏{‏رحيم *‏}‏ أي بالغ الرحمة بما ترضاه الإلهية، فالحاصل أن المفسد يقيض الله له قرناء السوء من الجن والإنس يزيدونه فساداً والمصلح ييسر الله له أولياء الخير من الإنس والملائكة يعينونه ويحببونه في جميع الخيرات ويبعدونه ويكرهونه في جميع المضرات- والله يتولى الصالحين‏.‏

ولما كان هذا لمن كمل نفسه، أتبعه بمن أكمل غيره إشارة إلى أن السعادة التامة أن يكتسب الإنسان من الصفات الفاضلة مما يصير بها كاملاً في نفسه، فإذا فرغ اشتغل بتكميل الناقص عاطفاً على ما تقديره‏:‏ ما أحسن هذا الذي كمل نفسه، وقاله تنويهاً بعلو قدر النفع المتعدي وحثاً على مداومة الدعاء وإن أبوا وقالوا ‏{‏قلوبنا في أكنة‏}‏ ثم قالوا ‏{‏لا تسمعوا لهذا القرآن‏}‏ فإنهم لم يقولوا من ذلك شيئاً إلا ذكرت أجوبته الشافية الكافية فاندفعت جميع الشبهات وزالت غياهب الضلالات، فصار تحذير الدعاء موضعاً للقبول ‏{‏ومن أحسن قولاً‏}‏ أي من جهة القول ‏{‏ممن دعا‏}‏ وحد الضمير دلالة على قلة هذا الصنف ‏{‏إلى الله‏}‏ أي الذي عم بصفات كماله جميع الخلق فهو يستعطف كل أحد بما تعرف إليه سبحانه به من صفاته ‏{‏وعمل‏}‏ أي والحال أنه قد عمل ‏{‏صالحاً‏}‏ في نفسه ليكون ذلك أمكن لدعائه أعم من أن يكون ذلك لصالح نية أو قولاً أو عملاً للجوارح الظاهرة سراً كان أو علناً، ولذا حذف الموصوف لئلا يوهم تقيده بالأعمال الظاهرة وللاغناء عنها بقوله «دعا» بخلاف ما كان سياقه للتوبة كآية الفرقان أو اعتقاد الحشر كآية الكهف، فإنه لا بد فيه من إظهار العمل ليكون شاهداً على صحة الاعتقاد وكمال التوبة، والدعاء هنا مغنٍ عن ذلك ‏{‏وقال‏}‏ مؤكداً عند المخالف والمؤالف قاطعاً لطمع المفسد فيه‏:‏ ‏{‏إنني من المسلمين *‏}‏ أي الراسخين في صفة الإسلام متظاهراً بذلك لا يخاف في الله لومة لائم وإن سماه أبناء زمانه كذا جافياً وغليظاً عاسياً لتصلبه في مخالفته إياهم فيما هم عليه بتسهله في انقياده لكل ما أمره به ربه سبحانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 37‏]‏

‏{‏وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ‏(‏34‏)‏ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ‏(‏35‏)‏ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏36‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

ولما كان التقدير‏:‏ لا أحد أحسن قولا منه، بل هو المحسن وحده، فلا يستوي هذا المحسن وغيره أصلاً، رداً عليهم أن حالهم أحسن من حال الدعاة إلى الله، وكان القيام بتكميل الخلق يحتاج إلى جهاد للنفس عظيم من تحمل المشاق والصبر على الأذى، وغير ذلك من جميع الأخلاق، عطف عليه التفرقة بين عمليهما ترغيباً في الحسنات فقال‏:‏ ‏{‏ولا تستوي‏}‏ أي وإن اجتهدت في التحرير والاعتبار ‏{‏الحسنة‏}‏ أي لا بالنسبة إلى أفراد جنسها ولا بالنسبة إلى عامليها عند وحدتها، لتفاوت الحسنات في أنفسها، والحسنة الواحدة باعتبار نيات العاملين لها واجتهادهم فيها ولا بالنسبة إلى غيرها، وإلى ذلك إشارة بالتأكيد في قوله‏:‏ ‏{‏ولا السيئة‏}‏ أي في نفسها ولا بالنسبة إلى جنس آخر‏.‏

ولما أنتج هذا الحث على الإقبال على الحسن والإعراض عن السيء، وأفهم أن كلاً من القسمين متفاوت الجزئيات متعالي الدرجات، وكان الإنسان لا ينفك عن عوارض تحصل له من الناس ومن نفسه يحتاج إلى دفع بعضها، أنتج عند قصد الأعلى فقال‏:‏ ‏{‏ادفع‏}‏ أي كل ما يمكن أن يضرك من نفسك ومن الناس ‏{‏بالتي‏}‏ أي الخصال والأحوال التي ‏{‏هي أحسن‏}‏ على قدر الإمكان من الأعمال الصالحات فالعفو عن المسيء حسن، والإحسان أحسن منه ‏{‏فإذا الذي بينك وبينه عداوة‏}‏ عظيمة قد ملأت ما بين البينين فاجأته حال كونه ‏{‏كأنه ولي‏}‏ أي قريب ما يفعل القريب ‏{‏حميم *‏}‏ أي في غاية القرب لا يدع مهماً إلا قضاه وسهله ويسره، وشفا علله، وقرب بعيده، وأزال درنه، كما يزيل الماء الحار الوسخ‏.‏

ولما كانت هذه الخصلة أمّا جامعاً لجميع مصالح الدين والدنيا قال منبهاً على عظيم فضلها وبديع نبلها حاثاً على الاستظلال بجميع ظلها مشيراً بالبناء للمفعول إلى أنها هي العمدة المقصودة بالذات على وجه منبه على أنها مخالفة لجبلة الإنسان حثاً على الرغبة في طلبها من واهبها ‏{‏وما يلقّاها‏}‏ أي يجعل لاقياً لهذه الخصلة التي هي مقابلة الإساءة بأحسن الحسن وهو الإحسان الذي هو أحسن من العفو والحلم والصبر والاحتمال بأن يعلق الله تعالى إرادته على وجه الشدة والمبالغة بإلقائها إليه ‏{‏إلا الذين صبروا‏}‏ أي وجدت منهم هذه الحقيقة وركزت في طباعهم، فصاروا يكظمون الغيظ ويحتملون المكاره، وكرر إظهار البناء للمفعول للتنبيه على أنه لا قدرة عليها أصلاً إلا بتوفيق الخالق بأمر وطني يقذفه الله في القلب قذفاً وحياً تظهر ثمرته على سائر البدن، فقال دالاً باعادة النافي على زيادة العظم وعلى أن أصحاب هذه الخصلة على رتبتين كل رتبة منهما مقصودة في نفسها ‏{‏وما يلقّاها‏}‏ على ما هي عليه من العظمة ‏{‏إلا‏}‏ وأفرد هنا بعد جمع الصابر دلالة على ندرة المستقيم على هذه لخصلة ‏{‏ذو حظ‏}‏ أي نصيب وقسم وبخت ‏{‏عظيم *‏}‏ أي جليل في الدنيا والآخرة عند الله وعند الناس‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإن لقيت ذلك وأعاذك الله من الشيطان فأنت أنت، عطف عليه قوله معبراً بأداة الشك المفهمة لجواز وقوع ذلك في الجملة، مع العلم بأنه صلى الله عليه وسلم معصوم إشارة إلى رتبة الإنسان من حيث هو إنسان وإلى أن الشيطان يتوهم مع علمه بالعصمة أنه يقدر على ذلك فيعلق أمله به، وكأنه لذلك أكد لأن نزغه له في محل الإنكار ‏{‏وإمّا‏}‏ ولما كانت وسوسة الشيطان تبعث على ما لا ينبغي، وكان العاقل لا يفعل ما لا ينبغي إلا بالالجاء، شبه المتعاطي له بالمنخوس الذي حمله النخس على ارتكاب ما يضر فقال‏:‏ ‏{‏ينزغنك‏}‏ أي ينخسنك ويطعننك طعناً مفسداً فيحصل لك تألم ‏{‏من الشيطان‏}‏ البعيد من الرحمة المحترق باللعنة‏.‏ ولما كان المقام خطراً لأن الطبع مساعد للوسواس، جعل النزغ نفسه نازغاً إشارة إلى ذلك فقال‏:‏ ‏{‏نزغ‏}‏ أي وسوسة تحرك نحو الموسوس من أجله وتبعث إليه بعث المنخوس إلى الجهة التي يوجه إليها، فإن ينبعث إلى تلك الجهة بعزم عظيم ‏{‏فاستعذ بالله‏}‏ أي استجر بالملك الأعلى واطلب منه الدخول في عصمته مبادراً إلى ذلك حين نخس بالنزغة فإنه لا يقدر على الإعاذة منه غيره ولا تذر النزغة تتكرر بل ارجع إلى المحيط علماً وقدرة في أول الخطرة، فإنك إن لم تخالف أول الخطرة صارت فكرة فيحصل العزم فتقع الزلة فتصير قسوة فيحصل التمادي- نبه عليه القشيري‏.‏

ولما كانت الاستعاذة هنا من الشيطان، وكان نزغه مما يعلم لا مما يرى وكانت صفة السمع نعم ما يرى وما لا يرى، قال مؤكداً لوقوف الجامدين مع الظواهر‏:‏ ‏{‏إنه هو‏}‏ أي وحده ‏{‏السميع‏}‏ وختم بقوله‏:‏ ‏{‏العليم *‏}‏ الذي يسمع كل مسموع من استعاذتك وغيرها، ويعلم كل معلوم من نزغه وغيره، فهو القادر على رد كيده، وتوهين أمره وأيده، وليس هو كما جعلتموه له من الأنداد الصم البكم التي لا قدرة لها على شيء أصلاً‏.‏

ولما ذكر أنهم جعلوا له أنداداً مع أنه خلق الأرض في يومين، وختم ذلك بأن أحسن الحسن الدعاء إلى الله، وختم الأمر بالدعاء بصفة العلم، أتبعه دلائل التوحيد إعلاماً بأن التوحيد أحسن الحسن يطرد كل شيء، وتنبيهاً على أن الدعوة إلى الله تعالى عبارة عن تنوير الدلائل الدالة على الذات والصفات، وذلك ببيان الأفعال وآثارها وهو العالم بجميع ما فيه من الأجزاء والأبعاض جوهراً وعرضاً، وبدأ بذكر الفلكيات لأنها أدل، فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فمن آياته الناشئة عن شمول علمه المستلزم لشمول قدرته المنتجة لإعادته لمن يريد ونفوذ تصرفه في كل ما يشاء المستلزم لتفرده بالإلهية أنه خلق الخافقين كما مضى في ستة أيام‏:‏ ‏{‏ومن آياته‏}‏ الدالة على وحدانيته‏:‏

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الواحد

ولما كانت الظلمة عدماً والنور وجوداً والعدم مقدم قال‏:‏ ‏{‏الليل والنهار‏}‏ أي الدالاّن باختلافهما وهيئتهما على قدرته على البعث وعلى كل مقدور ‏{‏والشمس والقمر‏}‏ اللذان هما الليل والنهار كالروح لذوي الأجساد، وهذه الموجوات- مع ما مضى من خلق الخافقين- كتاب الملك الديان، إلى الإنس والجان، المشهود لهم بالعيان كما قيل يا إنسان‏:‏

تأمل سطور الكائنات فإنها *** من الملك الأعلى إليك رسائل

وقد خط فيها لو تأملت خطة *** إلا كل شيء ما خلا الله باطل

ولما ثبت له سبحانه التفرد بالخلق والأمر، وكان باطناً إلا عند من نور الله أو كانت الشمس والقمر من آياته المعرفة المشيرة في وجود الدنيا والآخرة إليه، وكانا مشاهدين، وكان الإنسان قاصر العقل مقيد الوهم بالمشاهدات لما عنده من الشواغل إلا من عصم الله، أنتج قوله محذراً من عبادتهما لما يرى لهما من البهاء وفيهما من المنافع‏:‏ ‏{‏لا تسجدوا للشمس‏}‏ التي هي أعظم أوثانكم فإنها من جملة مبدعاته، وأعاد النافي تأكيداً للنفي وإفادة لأن النهي عن كل منهما على حدته ولذلك أظهر موضع الإضمار فقال‏:‏ ‏{‏ولا للقمر‏}‏ كذلك‏.‏

ولما نهى عن السجود لهما، أمر بالسجود بما يبين استحقاقه لذلك وعدم استحقاقهما أو استحقاق شيء غيرهما له فقال‏:‏ ‏{‏واسجدوا‏}‏ ونبه على مزيد عظمته بالإظهار موضع الإضمار فقال‏:‏ ‏{‏لله‏}‏ أي الذي له كل كمال من غير شائبة نقص من أقول أو تجدد حلول ‏{‏الذي خلقهن‏}‏ أي الأربعة لأجلكم فهو الذي يستحق الإلهية، وأنث لأن ما لا يعقل حكمه حكم المؤنث في الضمير وهي أيضاً آيات، وفيه إشارة إلى تناهي سفولها عما أهلوها له وذم عابديها بالإفراط في الغباوة، ويمكن أن يكون عد القمر أقماراً لأنه يكون تارة هلالاً وأخرى بدراً وأخرى محواً، فلذلك جمع إشارة إلى قهرهما بالتغيير له في الجرم ولمهما بالتسيير، ولذلك عبر بضمير المؤنث الذي يكون لجمع الكثرة مما لا يعقل‏.‏

ولما ظهر أن الكل عبيده، وكان السيد لا يرضى بإشراك عبده عبداً آخر في عبادة سيده قال‏:‏ ‏{‏إن كنتم إياه‏}‏ أي خاصة بغاية الرسوخ ‏{‏تعبدون *‏}‏ كما هو صريح قولكم في الدعاء في وقت الشدائد لا سيما في البحر، ومحصل قولكم ‏{‏ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى‏}‏ فإن أشركتم به شيئاً بسجود أو غيره فما خصصتموه بالعبادة لأن السجود من العبادة وفعله ولو في وقت واحد لغيره إشراك في الجملة، ومن أشرك به لم يعبده وحده، ومن لم يعبده وحده لم يعبده أصلاً، لأنه أغنى الأغنياء، لا يقبل إلا الخالص وهو أقرب إلى عباده من كل شيء فيوشك أن ينتقم بإشراككم، وفي الآية إشارة إلى الحث على صيانة الآدميين عن أن يقع منهم سجود لغيره رفعاً لمقامهم عن أن يكونوا ساجدين لمخلوق بعد أن كانوا مسجوداً لهم، فإنه سبحانه أمر الملائكة الذين هم أشرف خلقه بعدهم بالسجود آدم وهم في ظهره فتكبر اللعين إبليس، فابد لعنه، فشتان ما بين المقامين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 41‏]‏

‏{‏فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏40‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ‏(‏41‏)‏‏}‏

ولما كانوا في هذا الأمر بين طاعة ومعصية، وكان درء المفاسد مقدماً، سبب عن ذلك قوله معبراً بأداة الشك تنبيهاً لهم على أن استكبارهم بعد إقامة هذه الأدلة ينبغي أن لا يتوهم، وصرف القول إلى الغيبة تحقيراً لهم وإبعاداً على تقدير وقوع ذلك منهم ‏{‏فإن استكبروا‏}‏ أي أوجدوا الكبر عن اتباعك فيما أمرتهم به من التوحيد فلم يوحدوا الله ولم ينزهوه تعالى عن الشريك ‏{‏فالذين عند‏}‏ وأظهر موضع الإصخار معبراً بوصف الإحسان بشارة له ونذارة لهم ‏{‏ربك‏}‏ خاصة لا عندهم لكونهم مقربين لديه في درجة الرضاء والكرامة ولكونهم مما يستغرق به الآدميون ولكون الكفار لا قدرة لهم على الوصول إليهم بوجه‏:‏ ‏{‏يسبحون له‏}‏ أي يوقعون التنزيه عن النقائص ويبعدون عن الشركة لأجل علوه الأقدس وعزه الأكبر لا لشيء غيره إخلاصاً في عبادته وهم لا يستكبرون‏.‏

ولما كان حال الكفار في الإخلاص مختلفاً في الشدة والرخاء، أشار إلى تقبيح ذلك منهم بتعميم خواصه عليهم الصلاة والسلام بالإخلاص حالتي الإثبات الذي هو حالة بسط في الجملة، والمحو الذي هو حالة قبض كذلك يجددون هذا التنزيه مستمرين عليه في كل وقت فقال‏:‏ ‏{‏بالليل والنهار‏}‏ أي على مر الملوين وكر الجديدين لا يفترون‏.‏ ولما كان في سياق الفرص لاستكبارهم المقتضي لإنكارهم، أكد بالعاطف والضمير فقال مؤذناً بأن هذا ديدنهم لا ينفكون عنه‏:‏ ‏{‏وهم‏}‏ أي والحال أنهم على هذا الدوام ‏{‏لا يسئمون *‏}‏ أي لا يكاد لهم في وقت من الأوقات فتور ولا ملل، فهو غني عن عبادة هؤلاء بل وعن عبادة كل عابد، والحظ الأوفر لمن عنده وأما هو سبحانه فلا يزيده شيئاً ولا ينقصه شيء فدع هؤلاء أن استكبروا وشأنهم، فيعلمون من الخاسر، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الاستكبار أولاً دليلاً على حذفه ثانياً والتسبيح ثانياً دليلاً على حذفه أولاً، وسر ذلك أنه ذكر أقبح ما لأعدائه وأحسن ما لأوليائه‏.‏

ولما ذكر بعض آيات السماء لشرفها، ولأن بعضها عبد، ومن آثار الإلهية، فذكر دلالتها على وحدانيته اللازم منه إبطال عبادتها، أتبعه بعض آيات الأرض بخلاف ما في يس، فإن السياق هناك للبعث وآيات الأرض أدل فقال‏:‏ ‏{‏ومن آياته‏}‏ أي الدالة على عظم شأنه وعلو سلطانه ‏{‏أنك ترى الأرض‏}‏ أي بعضها بحاسة البصر وبعضها بعين البصيرة قياساً على ما أبصرته، لأن الكل بالنسبة إلى القدرة على حد سواء‏.‏

ولما كان السياق للوحدانية، عبر بما هو أقرب إلى حال العابد بخلاف ما مضى في الحج فقال‏:‏ ‏{‏خاشعة‏}‏ أي يابسة لا نبات فيها فهي بصورة الذليل الذي لا منعة عنده لأنه لا مانع من المشي فيها لكونها متطأمنة بعد الساتر لوجهها بخلاف ما إذا كانت مهتزة رابية متزخرفة تختال بالنبات‏.‏

ولما كان إنزال الماء مما استأثر به سبحانه، فهو من أعظم الأدلة على عظمة الواحد، صرف القول إلى مظهر العظمة فقال‏:‏ ‏{‏فإذا أنزلنا‏}‏ بما لنا من القدرة التامة والعظمة ‏{‏عليها الماء‏}‏ من الغمام أو سقناه إليها من الأماكن العالية وجلبنا به إليه من الطين ما تصلح به للانبات وإن كانت سبخة كأرض مصر ‏{‏اهتزت‏}‏ أي تحركت حركة عظيمة كثيرة سريعة، فكانت كمن يعالج ذلك بنفسه ‏{‏وربت‏}‏ أي تشققت فارتفع ترابها وخرج منها النبات وسما في الجو مغطياً لوجهها، وتشعبت عروقه، وغلظت سوقه، فصار يمنع سلوكها على ما كان فيه من السهولة، وصار بحسن زيه بمنزلة المختال في أثواب ثرية بعد أن كان عارياً ذليلاً في أطمار رثة وحل زرئ وكذلك القلوب إذا خشعت لاستشعارها بما ألمت به من الذنوب أقبل الحق سبحانه عليها فطهرها بمياه المعارف فظهرت فيها بركات الندم وعفا عن أربابها ما قصروا في صدق القدم وأشرقت بحلى الطاعات وزهت بملابس القربات، وزكت بأنواع التجليات‏.‏

ولما كان هذا دليلاً مشاهداً على القدرة على إيجاد المعدوم، وإعادة البالي المحطوم، أنتج ولا بد قوله مؤكداً لأجل ما هم فيه من الإنكار صارفاً القول عن مظهر العظمة إلى ما ينبه على القدرة على البعث ولا بد‏:‏ ‏{‏إن الذي أحياها‏}‏ بما أخرج من نباتها الذي كان بلي وتحطم وصار تراباً ‏{‏لمحيي الموتى‏}‏ كما فعل بالنبات من غير فرق‏.‏ ولما كانوا مع إقرارهم بتمام قدرته كأنهم ينكرون قدرته لإنكارهم البعث قال معللاً مؤكداً‏:‏ ‏{‏أنه على كل شيء قدير *‏}‏ لأن الممكنات متساوية الأقدام بالنسبة إلى القدرة، فالقادر قدرة تامة على شيء منها قادر على غيره‏.‏

ولما بين أن الدعوة إلى الله أعظم المناصب، وأشرف المراتب، وبين أنها إنما تحصل ببيان دلائل التوحيد التي من اعظمها البعث، وبينه إلى أن كان بهذا الحد من الوضوح، كان مجز التهديد من أعرض عن قبوله‏:‏ فقال في عبارة عامة له ولغيره، مؤكداً تنبيهاً على أن فعلهم فعل من يظن أنه سبحانه لا يطلع على أعماله‏:‏ ‏{‏إن الذين يلحدون *‏}‏ أي يميلون بصرف المعاني عن القصد وسنن العدل بنحو قولهم ‏{‏ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى‏}‏، أو يماحلون باللغو بالمكاء والتصدية وغير ذلك من أنواع اللغط وكل ما يشمله معنى الميل عما تصح إرادته‏.‏

ولما كان الاجتراء على الإلحاد قادحاً في الاعتراف بالعظمة، أعاد مظهرها فقال‏:‏ ‏{‏في آياتنا‏}‏ على ما لها من العظمة الدالة على ما لنا من الوحدانية وشمول العلم وتمام القدرة‏:‏ ولما كان العلم بالإساءة مع القدرة سبباً للأخذ، قال مقرراً للعلم بعد تقرير القدرة‏:‏ ‏{‏لا يخفون علينا‏}‏ أي في وقت من الأوقات ولا وجه من الوجوه، ونحن قادرون على أخذهم، فمتى شئنا أخذنا، ولا يعجل إلا ناقص يخشى الفوت‏.‏

ولما كان الإلحاد سبباً لإلقاء صاحبه في النار، وكان التقدير‏:‏ ونحن نحلم عن العصاة فمن رجع إلينا أمن كل مخوف، ومن أعرض إلى الممات ألقيناه في النار، سبب عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن يلقى في النار‏}‏ أي على وجهه بأيسر أمر بسبب إلحاده في الآيات وإعراضه عن الدلالات الواضحات، فيكون خائفاً يوم القيامة لما يرى من مقدمات ذلك حتى يدهمه ما خاف منه ‏{‏خير أم من يأتي‏}‏ إلينا ‏{‏آمناً يوم القيامة‏}‏ حين نجمع عبادنا للعرض علينا للحكم بينهم بالعدل فيدخل الجنة دار السلام فيدوم أمنه، والآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الإلقاء في النار أولاً دليلاً على دخول الجنة ثانياً، والأمن ثانياً دليلاً على الخوف أولاً، وسره أنه ذكر المقصود بالذات، وهو ما وقع الخوف لأجله أولاً، والأمن الذي هو العيش في الحقيقة ثانياً‏.‏

ولما كان هذا راداً ولا بد للعاقل عن سوء أعماله إلى الإحسان رجاء إنعام الله وإفضاله، أنتج قوله مهدداً ومخوفاً ومتوعداً صارفاً القول عن الغيبة إلى الخطاب لأنه أدل على الغضب على التمادي بعد هذا البيان‏:‏ ‏{‏اعملوا ما شئتم‏}‏ أي فقد علمتم مصير المسيء والمحسن، فمن أراد شيئاً من الجزاءين فليعمل أعماله، فإنه ملاقيه‏.‏ ولما كان العامل لا يطمع في الإهمال إلى على تقدير خفاء الأعمال، والمعمول له لا يترك الجزاء إلا لجهل أو عجز، بين أنه سبحانه محيط العلم عالم بمثاقيل الذر فقال مرغباً مرهباً مؤكداً لأنهم يعملون عمل من يظن أن أعماله تخفى، عادلاً عن مظهر العظمة إلى ما هو أدل شيء على الفردانية، لئلا يظن ان مزيد العلم بواسطة كثيرة‏:‏ ‏{‏إنه‏}‏ وقدم أعمالهم تنبيهاً على الاهتمام بشأنها جداً فقال‏:‏ ‏{‏بما تعملون‏}‏ أي في كل وقت ‏{‏بصير *‏}‏ بصراً وعلماً، فهو على كل شيء منكم قدير‏.‏

ولما جعل إليهم الاختيار في العمل تهديداً، أتبعه الإخبار بما لمن خالفه، فقال مؤكداً لإنكارهم مضامين ما دخل عليه التأكيد‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ أي ستروا مرائي العقول الدالة على الحق مكذبين ‏{‏بالذكر‏}‏ الذي لا ذكر في الحقيقة غيره ‏{‏لمّا جاءهم‏}‏ من غير توقف أصلاً فدل ذلك منهم على غاية العناد ‏{‏وإنه‏}‏ أي والحال أنه ‏{‏لكتاب‏}‏ أي جامع لكل خير ‏{‏عزيز *‏}‏ أي لا يوجد مثله فهو يغلب كل ذكر ولا يغلبه ذكر ولا يقرب من ذلك، ويعجز كل معارض ولا يعجز أصلاً عن إقعاد مناهض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 45‏]‏

‏{‏لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ‏(‏42‏)‏ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏43‏)‏ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏44‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏45‏)‏‏}‏

ولما كان من معاني العزة أنه ممتنع بمتانة رصفه وجزالة نظمه وجلالة معانيه من أن يلحقه تغيير ما، بين ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لا يأتيه الباطل‏}‏ أي البين البطلان إتيان غلبة فيصير أو شيء منه باطلاً بيّنا، ولما كان المراد تعميم النفي، لا نفي العموم، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بين يديه‏}‏ أي من جهة الظاهر مثل ما أمر أخبر به عما كان قبله ‏{‏ولا من خلفه‏}‏ من جهة العلم الباطن مثل علم ما لم يشتهر من الكائن والآتي سواء كان حكماً أو خبراً لأنه في غاية الحقية والصدق، والحاصل أنه لا يأتيه من جهة من الجهات، لأن ما قدام اوضح ما يكون، وما خلف أخفى ما يكون، فما بين ذلك من باب الأولى، فالعبارة كناية عن ذلك لأن صفة الله لا وراء لها ولا أمام على الحقيقة، ومثل ذلك ليس وراء الله مرمى، ولا دون الله منتهى، ونحوه مما تفهم العرب ومن علم لسانها المراد به دون لبس، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏تنزيل‏}‏ أي بحسب التدريج لأجل المصالح ‏{‏من حكيم‏}‏ بالغ الحكمة فهو يضع كل شيء منه في أتم محاله في وقت النزول وسياق النظم ‏{‏حميد *‏}‏ أي بالغ الإحاطة بأوصاف الكمال من الحكمة وغيرها والتنزه والتطهر والتقدس عن كل شائبة نقص، يحمده كل خلق بلسان حاله إن لم يحمده بلسان قاله، بما ظهر عليه من نقصه أو كماله، والخبر محذوف تقديره‏:‏ خاسرون لا محالة لأنهم لا يقدرون على شيء مما يوجهونه إليه من الطعن لأنهم عجزة ضعفاء صغرة كما قال المعري‏:‏

أرى الجوزاء تكبر أن تصادا *** فعاند من تطيق له عنادا

وحذف الخبر أهول لتذهب النفس كل مذهب‏.‏

ولما وصف الذكر بأنه لا يصح ولا يتصور أن يلحقه نقص، فبطل قولهم ‏{‏لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه‏}‏ ونحوه مما مضى وحصل الأمن منه، أتبعه التسلية مما يلحق به من الغم ليقع الصبر على جميع أقوالهم فقال‏:‏ ‏{‏ما يقال لك‏}‏ أي يبرز إلى الوجود قوله سواء كان في ماضي الزمان أو حاضره آو آتيه من شيء من الكفار أو غيرهم يحصل به ضيق صدر أو تشويش فكر من قولهم ‏{‏قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه‏}‏ إلى آخره‏.‏ وغير ذلك مما تقدم أنهم قالوه له متعنتين به ‏{‏إلا ما‏}‏ أي شيء ‏{‏قد قيل‏}‏ أي حصل قوله على ذلك الوجه ‏{‏للرسل‏}‏ وأن لم يقل لكل واحد منهم فإنه قيل للمجموع، ونبه على أن ذلك ليس لمستغرق للزمان بل تارة وتارة بإدخال الجار في قوله‏:‏ ‏{‏من قبلك‏}‏ ولما حصل بهذا الكلام ما أريد من التأسية، فكان موضع التوقع لهم أن يحل بهم ما حل بالأمم قبلهم من عذاب الاستئصال، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الشفقة عليهم والمحبة لصلاحهم، سكن سبحانه روعه بالإعلام بأن رحمته سبقت غضبه فقال مخوفاً مرجياً لأجل إنكار المنكرين‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ وأشار إلى مزيد رفعته بذكر صفة الإحسان وإفراد الضمير فقال‏:‏ ‏{‏ربك‏}‏ أي المحسن إليك بارسالك وإنزال كتابه إليك، ومن أكرم بمثل هذا لا ينبغي له أن يحزن لشيء يعرض ‏{‏لذو مغفرة‏}‏ أي عظيمة جداً في نفسها وزمانها ومكانها لمن يشاء منهم، فلا يقطع لأحد بشقاء‏.‏

ولما رغبهم باتصافه بالمغفرة، رهبهم باتصافه بالانتقام، وأكد باعادة «ذو» والواو فقال‏:‏ ‏{‏وذو عقاب‏}‏ والختم بما رويه الميم مع تقديم الاسم الميمي في التي قبلها دال للأشعري الذي قال بأن الفواصل غير مراعية في الكتاب العزيز، وإنما المعول عليه المعاني لا غير، والمعنى هنا على إيلام من كانوا يؤلمون أولياءه باللغو عند التلاوة الدالة على غاية العناد، فلذلك قدم حكيم، ولم يقل شديد، وقال‏:‏ ‏{‏أليم *‏}‏ أي كذلك، فلا يقطع لأحد نجاة إلا من أخبر هو سبحانه بإشقائه أو إنجائه، وقد تقدم فعله لكل من الأمرين أنجى ناساً وغفر لهم كقوم يونس عليه الصلاة والسلام، وعاقب آخرين، وسيفعل في قومك من كل من الأمرين ما هو الأليق بالرحمة بإرسالك، كما أشار إليه ابتداؤه بالمغفرة، فالآية نحو‏:‏ إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم، ولعله لم يصرح هنا تعظيماً للقرآن الذي الكلام بسببه‏.‏

ولما افتتحت السورة بأنه أنزل على أحسن الوجوه وأجملها وأعلاها وأبينها وأكملها من التفصيل، والجمع والبيان بهذا اللسان العظيم الشأن، فقالوا فيه ما وقعت هذه التسلية لأجله من قولهم ‏{‏فلوبنا في أكنة‏}‏ إلى آخره، وكان ربما قال قائل؛ لو كان بلسان غير العرب، وأعطى هذا النبي فهمه والقدرة وعلى تبيينه لكان أقوى في الإعجاز وأجدر بالاتباع، أخبر أن الأمر ليس كذلك، لأنهم لم يقولوا‏:‏ هذا الشك حصل لهم في أمره، بل عناداً، والمعاند لا يرده شيء، فقال على سبيل التأكيد، معلماً بأن الأمر على غير ما ظنه هذا الظان، وقال الأصبهاني‏:‏ إنه جواب عن قولهم ‏{‏وقالوا قلوبنا في أكنه‏}‏‏.‏ والأحسن عندي أن يكون عطفاً على ‏{‏فصلت آياته قرآناً عربياً‏}‏ وبناه للمفعول لأنه بلسانهم فلم يحتج إلى تعيين المفصل، فيكون التقدير‏:‏ فقد جعلناه عربياً معجزاً، وهم أهل العلم باللسان، فأعرضوا عنه وقالوا فيه ما تقدم، ولفت القول عن وصف الإحسان الذي اقتضى أن يكون عربياً إلى مظهر العظمة الذي هو محط إظهار الاقتدار وإنفاذ الكلمة ‏{‏ولو جعلناه‏}‏ أي هذا الذكر بما لنا من العظمة والقدرة ‏{‏قرآناً‏}‏ أي على ما هو عليه من الجمع ‏{‏أعجمياً‏}‏ أي لا يفصح وهو مع ذلك على وجه يناسب عظمتنا ليشهد كل أحد أنه معجز للعجم كما أن معجز للعرب وأعطيناك فهمه والقدرة على إفهامهم إياه ‏{‏لقالوا‏}‏ أي هؤلاء المتعنتون فيه كما يقولون في هذا بغياً وتعنتاً‏:‏ ‏{‏لولا‏}‏ أي هلا ولم لا ‏{‏فصلت آياته‏}‏ أي بينت على طريقة نفهمها بلا كلفة ولا مبين، حال كونه قرآناً عربياً كما قدمنا أول السورة‏.‏

ولما تبين بشاهد الوجود أنهم قالوا في العربي الصرف وبشهادة الحكيم الودود، وأنهم يقولون في الأعجمي الصرف، لم يبق إلا المختلط منهما المنقسم إليهما، فقال مستأنفاً منكراً عليهم للعلم بأن ذلك منهم مجرد لدد لا طلباً للوقوف على سبيل الرشد‏:‏ ‏{‏أعجمي‏}‏ أي أمطلوبكم أو مطلوبنا- على قراءة الخبر من غير استفهام- أعجمي ‏{‏وعربي‏}‏ مفصل باللسانين، والأعجمي كما قاله الرازي في اللوامع‏:‏ الذي لا يفصح ولو كان عربياً والعجمي من العجم ولو تفاصح بالعربية‏.‏

ولما كان من الجائز أن يقولوا‏:‏ نعم، ذلك مطلوبنا، وكان نزولاً من الرتبة العليا إلى ما دونها مع أنه لا يجيب إلى المقترحات إلا مريد للعذاب، او عاجز عن إنفاذ ما نريد، بين أن مراده نافذ من غير هذا فقال‏:‏ ‏{‏قل هو‏}‏ أي هذا القرآن على ما هو عليه من العلو الذي لا يمكن أن يكون شيء يناظره ‏{‏للذين آمنوا‏}‏ أي أردنا وقوع الإيمان منهم ‏{‏هدى‏}‏ بيان لكل مطلوب ‏{‏وشفاء‏}‏ لما في صدروهم من داء الكفر والهواء والإفك فآذانهم به سميعة وقلوبهم له واعية وهو لهم بصائر قال القشيري فهو شفاء للعلماء حيث استراحوا عن كد الفكرة وتحير الخواطر وشفاء لضيق صدور المريدين بما فيه من التنعيم بقراءته والتلذذ بالتفكر فيه، ولقلوب المحبين من لواعج الاشتياق بما فيه من لطائف المواعيد، ولقلوب العارفين بما يتوالى عليها من أنوار التحقيق وآثار خطاب الرب العزيز ‏{‏والذين لا يؤمنون‏}‏ أي أردنا أنه لا يتجدد منهم إيمان ‏{‏في آذانهم وقر‏}‏ أي ثقل مذهب للسمع مصم، فهم لذلك لا يسمعون سماعاً ينفعهم لأنهم بادروا إلى رده أول ما سمعوه وتكبروا عليه فصاروا لا يقدرون على تأمله فهزهم الكسل وأصمهم الفشل فعز عليهم فهمه ‏{‏وهو عليهم‏}‏ أي خاصة ‏{‏عمى‏}‏ مستعلٍ على أبصارهم وبصائرهم لازم لهم، فهم لا يعونه حق الوعي، ولا يبصرون الداعي به حق الإبصار، فلهم به ضلال وداء، فلذلك قالوا ‏{‏ومن بيننا وبينك حجاب‏}‏ وذلك لما يحصل لهم من الشبه التي هيئت قلوبهم لقبولها، أو يتمادى بهم في الأوهام التي لا يألفون سوى فروعها وأصولها، فقد بان لأن سبب الوقر في آذانهم الحكم بعدم إيمانهم للحكم بإشقائهم، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الهدى والشفاء اولاً دليلاً على الضلال والداء ثانياً، والوقر والعمى ثانياً دليلاً على السمع والبصائر أولاً، وسر ذلك أنه ذكر أمدح صفات المؤمنين وأذم صفات الكافرين، لأنه لا أحقر من أصم أعمى‏.‏

ولما بان بهذا بعدهم عن عليائه وطردهم عن فنائه قال‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء البغضاء مثالهم مثال من ‏{‏ينادون‏}‏ أي يناديهم من يريد نداءهم غير الله ‏{‏من مكان بعيد *‏}‏ فهم بحيث لا يتأبى سماعهم، وأما الأولون فهم ينادون بما هيئوا له من القبول من مكان قريب، فهذه هي القدرة الباهرة، وذلك أن شيئاً واحداً يكون لناس في غاية القرب ولناس معهم في مكانهم في أنهى البعد‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فلقد آتيناك الكتاب على هذه الصفة من العظمة، فاختلفت فيه أمتك على ما أعلمناك به أول البقرة من انقسام الناس فعاقبنا الذين تكبروا عليه أن ختمنا على مشاعرهم، عطف عليه مسلياً قوله مؤكداً لمن يقول من أهل الكتاب إضلالاً‏:‏ لو كان نبياً ما اختلف الناس عليه ونحو ذلك مما يلبس به‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة ‏{‏موسى الكتاب‏}‏ أي الجامع لما فيه هداهم ‏{‏فاختلف‏}‏ أي وقع الاختلاف ‏{‏فيه‏}‏ أي من أمته كما وقع في هذا الكتاب لأن الله تعالى خلق الخلق للاختلاف مع ما ركب فيهم من العقول الداعية إلى الإنفاق ‏{‏ولولا كلمة‏}‏ أي إرادة ‏{‏سبقت‏}‏ في الأزل، ولفت القول إلى صفة الإحسان ترضية بالقدر وتسلية، وزاد ذلك بإفراده بالإضافة فقال‏:‏ ‏{‏من ربك‏}‏ أي المحسن إليك بتوفيق الصالح لاتباعك وخذلان الطالح بالطرد عنك لإراحتك منه من غير ضرر لدينك وبإهمال كل إلى أجل معلوم ثم إمهال الكل إلى يوم الفصل الأعظم من غير استئصال بعذاب كما صنعنا بغيرهم من الأمم ‏{‏لقضي‏}‏ أي وقع القضاء الفيصل ‏{‏بينهم‏}‏ المختلفين بإنصاف المظلوم من ظالمه الآن‏.‏ ولما علم بهذا وغيره أن يوم القيامة قد قدره وجعله موعداً من لا يبدل القول لديه، فاتضح أنه لا بد منه ولا محيد عنه وهو يجادلون فيه، قال مؤكداً‏:‏ ‏{‏إنهم لفي شك‏}‏ أي محيط بهم ‏{‏منه‏}‏ أي القضاء يوم الفصل ‏{‏مريب *‏}‏ أي موقع في الريب وهو التهمة والاضطراب بحيث لا يقدرون على التخلص من دائرته أصلاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 48‏]‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏46‏)‏ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ‏(‏47‏)‏ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏48‏)‏‏}‏

ولما تقرر بما مضى أن المطيع ناجٍ، وتحرر أن العاصي هالك كانت النتيجة من غير تردد‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً‏}‏ كائناً من كان من ذكر أو أنثى ‏{‏فلنفسه‏}‏ أي فنفع عمله لها ببركتها به لا يتعداها، والنفس فقيرة إلى التزكية بالأعمال الصالحة لأنها محل النقائص، فلذا عبر بها، وكان قياس العبارة في جانب الصلاح‏.‏ «ومن عمل سيئاً» فأفاد العدول إلى ما عبر به مع ذكر العمل أولاً الذي مبناه العلم إن الصالح تتوقف صحته على نيته، وأن السيء يؤاخذ به عامله في الجملة من الله أو الناس ولو وقع خطأ فلذا قال‏:‏ ‏{‏ومن أساء‏}‏ أي في عمله ‏{‏فعليها‏}‏ أي على نفسه خاصة ليس على غيره منه شيء‏.‏

ولما كان لمقصد السورة نظر كبير إلى الرحمة، كرر سبحانه وصف الربوبية فيها كثيراً، فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فما ربك بتارك جزاء أحد أصلا خيراً كان أو شراً‏:‏ ‏{‏وما ربك‏}‏ أي المحسن إليك بإرسالك لتتميم مكارم الأخلاق‏.‏ ولما كان لا يصح أصلاً ولا يتصور أن ينسب إليه سبحانه ظلم، عبر للدلالة على ذلك بنكرة في سياق النفي دالة على النسبة مقرونة بالجار فقال‏:‏ ‏{‏بظلام‏}‏ أي بذم ظلم ‏{‏للعبيد *‏}‏ أي الجنس فلا يتصور أن يقع منه ظلم لأحد أصلاً لأن له الغنى المطلق والحكمة البالغة، وعبر ب «عبيد» دون عباد لأنه موضع إشفاق وإعلام بضعف وعدم قدرة على انتصار وعناد يدل على طاعة وعدم حقارة بل إكرام هذا أغلب الاستعمال، ولعل حكمة التعبير بصيغة المبالغة الإشارة إلى أنه لو ترك الحكم والأخذ للمظلوم من الظالم، لكان بليغ الظلم من جهة ترك الحكمة التي هي وضع الأشياء في أتقن محالها ثم من جهة وضع الشيء وهو العفو عن المسيء وترك الانتصار للمظلوم في غير موضعه، ومن جهة التسوية بين المحسن والمسيء، وذلك أشد في تهديد الظالم لأن الحكيم لا يخالف الحكمة فكيف إذا كانت المخالفة في غاية البعد عنها- هذا مع أن التعبير بها لا يضر لأنها موضوعة أيضاً للنسبة إلى أصل المعنى مطلقاً ولأن نفي مطلق الظلم مصرح به في آيات أخرى‏.‏

ولما تضمنت الآية السالفة الجزاء على كل جليل وحقير، وقليل وكثير، والبراءة من الظلم، كما قال تعالى ‏{‏وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون‏}‏ ‏{‏ووفيت كل نفس ما عملت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 25‏]‏ ‏{‏وهو أعلم بما يفعلون‏}‏ وأشير إلى التوعد بالجزاء في يوم الفصل لأنا نشاهد أكثر الخلق يموت من غير جزاء، وكان من عادتهم السؤال عن علم ذلك اليوم، وكان ترك الجزاء إنما يكون للعجز، والظلم إنما يكون للجهل، لأنه وضع الأشياء في غير محالها فعل الماشي في الظلام، دل على تعاليه عن كل منهما بتمام العلم المستلزم لشمول القدرة على وجه فيه جوابهم عن السؤال عن علم الوقت الذي تقوم فيه الساعة الذي كان سبباً لنزول هذه الآية- كما ذكره ابن الجوزي- بقوله على سبيل التعليل‏:‏ ‏{‏إليه‏}‏ أي إلى المحسن إليك لا إلى غيره ‏{‏يرد‏}‏ من كل راد ‏{‏علم الساعة‏}‏ أي التي لا ساعة في الحقيقة غيرها، لما لها من الأمور التي لا نسبة لغيرها بها، فهي الحاضرة لذلك في جميع الأذهان، وإنما يكون الجزاء على الإساءة والإحسان فيها حتى يظهر لكل أحد ظهوراً بينا لكل أحد أنه لا ظلم أصلاً، فلا يمكن أن يسأل أحد سواه عنها ويخبر عنها بما يغنى في تعيين وقتها وكيفيتها وصنعتها، وكلما انتقل السائل من مسؤول ألى أعلم منه وجده كالذي قبله حتى يصل الأمر إلى الله تعالى، والعالم منهم هو الذي يقول‏:‏ الله أعلم، فاستئثاره بعلمها دال على تناهي علمه، وحجبه له عن كل من دونه دال على تمام قدرته، واجتماع الأمرين مستلزم لبعده عن الظلم، وأنه لا يصح اتصافه به، فلا بد من إقامته لها ليوفي كل ذي حق حقه، ويأخذ لكل مظلوم ظلامته غير متعتع‏.‏

ولما كانوا ينازعون في وقوعها فضلاً عن العلم بها، عدها أمراً محققاً مفروغاً منه وذكر ما يدل على شمول علمه لكل حادث في وقته دليلاً على علمه بما يعين وقت الساعة، وذلك على وجه يدل على قدرته عليها وعلى كل مقدور بما لا نزاع لهم فيه من ثمرات النبات والحيوان التي هي خبء في ذوات ما هي خارجة منه، فهي كخروج الناس بعد موتهم من خبء الأرض، فقال مقدماً للرزق على الخلق كما هو الأليق، عطفاً على ما تقديره‏:‏ فما يعلمها ولا يعلمها إلا هو‏:‏ ‏{‏وما تخرج‏}‏ أي في وقت من الأوقات الماضية والكائنة والآية، فإن «ما» النافية لا تدخل إلا على معناه الحلول، فالمراد مجرد تصوير إن كان زمانه قد مضى أو لم يأت، وأكد النفي بالجار فقال‏:‏ ‏{‏من ثمرات‏}‏ أي صغيرة أو كبيرة صلحة أو فاسدة من الفواكه والحبوب وغيرها؛ والإفراد في قراءة الجماعة للجنس الصالح للقليل والكثير، نبهت قراءة نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بالجمع على كثرة الأنواع ‏{‏من أكمامها‏}‏ جمع كم وكمامة بالكسر فيهما وهو وعاء الطلع وغطاء النور، وكل ما غطى على وجه الإحاطة شيئاً من شابه أن يخرج فهوكم، ومنه قيل للقلنسوة‏:‏ كمة، ولكم القميص ونحوه‏:‏ كم، أي إلا بعلمه ‏{‏وما تحمل من أنثى‏}‏ خداجاً أو تماماً، ناقصاً أو تاماً، وكذا النفي باعادة النافي ليشمل كلا على حياله، وعبر ب «لا» لأن الوضع ليس كالحمل يقع في لحظة بل يطول زمان انتظاره فقال‏:‏ ‏{‏ولا تضع‏}‏ حملاً حياً أو ميتاً ‏{‏إلا‏}‏ حال كونه ملتبساً ‏{‏بعلمه‏}‏ ولا علم لأحد غيره بذلك، ومن ادعى علماً به فليخبر بأن ثمرة الحديقة الفلانية والبستان الفلاني والبلد الفلاني تخرج في الوقت الفلاني أو لا تخرج العام شيئاً أصلاً والمرأة الفلانية تحمل في الوقت الفلاني وتضع في وقت كذا أو لا تحمل العام شيئاً، ومن المعلوم أنه لا يحيط بهذا علماً إلا الله سبحانه وتعالى‏.‏

ولما ثبت بهذا علمه صريحاً وقدرته لزوماً وعجز من سواه وجهله، وتقرر بذلك أمر الساعة من أنه قادر عليها بما أقام من الأدلة، وأنه لا بد من كونها لما وعد به من تكوينها لينصف لمظلوم من ظالمه لأنه حكيم ولا يظلم أحداً وإن كانوا في إيجادها ينازعون، ولم ينكرون قال تعالى مصوراً ما تضمنه ما سبق من جهلهم، ومقرراً بعض أحوال القيامة، عاطفاً على أرشد السياق إلى تقديره من نحو‏:‏ فهو على كل شيء قدير لأنه على كل شيء شهيد وهم بخلاف ذلك، مقرراً قدرته تصريحاً وعجز ما ادعوا من الشركاء‏:‏ ‏{‏ويوم يناديهم‏}‏ أي المشركين بعد بعثهم من القبور، للفصل بينهم في سائر الأمور فيقول المحسن إليك بأنواع الإحسان الذي منه إنصاف المظلوم من ظالمه على سبيل الأمور فيقول المحسن إليك بأنواع الإحسان الذي منه إنصاف المظلوم من ظالمه على سبيل التوبيخ والتقريع والتنديم‏:‏ ‏{‏أين شركائي‏}‏ أي الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم ويحمونكم من العقاب واللوم، والعامل في الظرف ‏{‏قالوا‏}‏ أي المشركون‏:‏ ‏{‏آذنّاك‏}‏ أي اعلمناك سابقاً بألسنة أحوالنا والآن بألسنة مقالنا، وفي كلتا الحالتين أنت سامع لذلك لأنك سامع لكل ما يمكن أن يسمع وإن لم يسمعه غيرك، ولذا عبروا بما منه الإذن ‏{‏ما منا‏}‏ وأكدوا النفي بإدخال الحار في المبتدأ المؤخر فقالوا‏:‏ ‏{‏من شهيد *‏}‏ أي حي دائماً حاضر دون غيبة، مطلع على ما يريد من غير خفاء بحيث لا يغيب عن علمه شيء فيخبر بما يخبر به على سبيل القطع والشهادة، فآل الأمر إلى أن المعنى‏:‏ لا نعلم أي ما كنا نسميهم شركاء لأنه ما منا من هو محيط العلم‏.‏

ولما قرر جهلهم، أتبعه عجزهم فقال‏:‏ ‏{‏وضل‏}‏ أي ذهب وشذ وغاب وخفي ‏{‏عنهم‏}‏ ولما كانت معبوداتهم إما ممن لا يعقل كالأصنام وإما في عداد ذلك لكونهم لا فعل لهم في الحقيقة، عبر عنهم بأداة ما لا يعقل فقال‏:‏ ‏{‏ما كانوا‏}‏ أي دائماً ‏{‏يدعون‏}‏ في كل حين على وجه العادة‏.‏

ولما كان دعاؤهم لهم غير مستغرق لزمان القبل، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ فهم لا يرونه فضلاً عن أنهم يجدون نفعه ويلقونه، كأنهم كانوا لما هم عريقون فيه من الجهل وسوء الطبع يتوقعون أن يظفروا بهم فيشفعوا لهم، فلذلك عبر بالظن في قوله‏:‏ ‏{‏وظنوا‏}‏ أي في ذلك الحال ‏{‏ما لهم‏}‏ وأبلغ في النفي بإدخال الجار على المبتدأ المؤخر فقال ‏{‏من محيص *‏}‏ أي مهرب وملجأ ومعدل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 51‏]‏

‏{‏لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ‏(‏49‏)‏ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏50‏)‏ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ‏(‏51‏)‏‏}‏

ولما دل أتباعهم للظن حتى في ذلك اليوم الذي تنكشف فيه الأمور، وتظهر عظائم المقدور، وإلقاؤهم بأيديهم فيه على أنهم في غاية العراقة في الجهل والرسوخ في العجز، أتبع ذلك الدليل على أن ذلك طبع هذا النوع فلا يزال متبدل الأحوال متغير المناهج، إن أحسن بخير انتفخ عظمه وتطاول كبراً، وإن مس ببلاء تضاءل ذلاً وأمتلأ ضعفاً وعجزاً، وذلك ضد مقصود السورة الذي هو العلم، بياناً لأن حال هذا النوع بعيد من العلم، عريق الصفات في الجهل والشر إلا من عصمه الله فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يسئم‏}‏ أي يمل ويضجر ‏{‏الإنسان‏}‏ أي من الأنس بنفسه الناظر في أعطافه، الذي لم يتأهل للمعارف الإلهية والطرق الشرعية ‏{‏من دعاء الخير‏}‏ أي من طلبه طلباً عظيماً، وذلك دال مع شرهه على جهله، فإنه لو كان عالماً بأن الخير يأتيه أو لا يأتيه لخفف عن نفسه من جهده في الدعاء ‏{‏ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 188‏]‏ ‏{‏وإن مسه الشر‏}‏ أي هذا النوع قليله وكثيره بغتة من جهة لا يتوقعها ‏{‏فيؤوس‏}‏ أي عريق في اليأس، وهو انقطاع الرجاء والأمل والحزن العظيم والقطع بلزوم تلك الحالة بحيث صار قدوة في ذلك ‏{‏قنوط *‏}‏ أي مقيم في دار انقطاع الأمل والخواطر الرديئة، فهو تأكيد للمعنى على أحسن وجه وأتمه، وهذا هو ما طبع عليه الجنس، فمن أراد الله به منهم خيراً عصمه، ومن أراد به شراً أجراه مع الطبع فكان كافراً، لأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون قال أبو حيان‏:‏ واليأس من صفة القلب وهو أن ينقطع رجاؤء من الخير، والقنوط أن يظهر عليه آثار اليأس فيتضاءل وينكسر، وبدأ بصفة القلب لأنها هي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من الانكسار‏.‏

ولما دل ذلك على عظيم جهله وغلبة أفكاره الرديئة على عقله، أتبعه تأكيداً لذلك ما يدل على أن حاله بعد هذا اليأس الذي قطع فيه بلزوم الشر وامتناع حصول الخير أنه لو عاودته النعمة بغتة من وجه لا يرجوه، وليس له دليل على ما دوامها وانصرامها لعاد إلى البطر والكبر والأشر، ونسي ما كان فيه من الشدة، فقال مسنداً إلى نفسه الخير بعد أن ذكر الشر، ولم يسنده إليه تعليماً للأدب معبراً بمظهر العظمة تنبيهاً على أن ذلك من جليل التدبير ‏{‏ولئن أذقناه‏}‏ أي الإنسان الذي غلبت عليه حالة الأنس بنفسه حتى أسفلته عن أبناء جنسه إلى رتبة الحيوانات العجم بل دونها‏.‏

ولما أخبر آخر الآية السالفة عن حاله عند الشر، قدم هنا ضده على صلته اهتماماً به بخلاف ما في سورة هود عليه السلام فقال‏:‏ ‏{‏رحمة منا‏}‏ أي نعمة عظيمة دلت على إكرامه من جهة لا يرجوها، وهو من فائدة التعبير بأداة الشك، ودل بإثبات الجار على انفصالها عن الضر مع قرب زمانها منه ليكون قد جمع مباشرة الأحوال الثلاث‏:‏ الانتقام والإكرام وما بينهما من الوسط الذي بين حالتي الرضا والسخط، ثم شرع بيان ذلك فقال‏:‏ ‏{‏من بعد ضراء‏}‏ أي محنة وشدة عظيمة ‏{‏مسته‏}‏ فطال بروكها عليه؛ وأجاب القسم لتقدمه على الشرط بقوله‏:‏ ‏{‏ليقولن‏}‏ بمجرد ذوق تلك الرحمة على أنها ربما كانت بلاء عظيماً لكونها استدراجاً إلى الهلاك‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ أي الأمر العظيم ‏{‏لي‏}‏ أي مختص بي لما لي من الفضل، لا مشاركة لأحد معي فيه مع أنه ثابت لا يتغير انتقالاً من حالة اليأس إلى حالة الأمن والبطر والكبر والأشر على قرب الزمن من ذوق المحن وينسى أنها من فضل الله ليقيدها بشكرها، ويطردها بكفرها ‏{‏وما أظن الساعة‏}‏ أي القيامة التي هي لعظمها المستحقة أن تختص باسم الساعة ‏{‏قائمة‏}‏ أي ثابتاً قيامها، فقطع الرجاء منها سواء عبر عن ذلك بلسان قاله أو بلسان حاله، لكونه يفعل أفعال الشاك فيها كما كان قطع الرجاء من الخير عند مباشرته للشر لكنه هنا قال على سبيل التقدير‏:‏ والفرض، لدفع من يعظه محققاً لدوام نعمته‏:‏ ‏{‏ولئن رجعت‏}‏ أي على سبيل الفرض بقسر قاسر ما ‏{‏إلى ربي‏}‏ أي الذي أحسن إليّ بهذا الخير الذي أنا فيه ‏{‏إن لي عنده‏}‏ وأكده على من يعظه بأنه يعذب إن لم يحسن قلبه وقالبه ‏{‏للحسنى‏}‏ أي الحالة والرتبة البالغة في الحسن حداً لا يوصف لأني أهل لذلك، والدليل على تأهلي له ما أنا فيه الآن من الخير، ونسي ما يشاهده غالباً من أن كثيراً من النعم يكون للاستدارج، ومن أن كثيراً من الناس يكون في غاية النعمة فيصبح وقد أحاطت به كل نقمه، فهو بين أمنيتين في الدنيا بقوله هذا، وفي الآخرة يقول‏:‏ يا ليتي كنت تراباً، فلا يزال في المحال- نعوذ بالله من سوء الحال‏.‏

ولما كان هذا هو الكفر الصراح لنسيان نعمة المنعم وجعله الإنعام من الواجب اللازم وشكه فيما أخبر سبحانه على ألسنة جميع الرسل أنه محط حكمته، سبب عنه سبحانه قوله، مؤكداً في نظير تأكيد هذا الناسي‏:‏ ‏{‏فلننبئن‏}‏ أي تنبئة عظيمة بخير الوصف فيها مستقصاة على سبيل العدل، وجعل الضمير الوصف تصريحاً بالعموم وبياناً للعلة الموجبة فقال‏:‏ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ أي ستروا ما دلت عليه العقول، وأوجبته صرائح النقول، من إقامة الساعة لأظهار جلاله وجماله، ومن أنه تعالى يحل بالإنسان السراء والضراء ليخافه ويرجوه ويشكره ويدعو ‏{‏بما عملوا‏}‏ لا ندع منه قليلاً ولا كثيراً صغيراً ولا كبيراً، فليرون عياناً ضد ما ظنوه في الدنيا من أن لهم الحسنى

‏{‏وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 23‏]‏ ‏{‏ولنذيقنهم‏}‏ بعد إقامة الحجة عليهم بموازين القسط الوافية لمثاقيل الذر ‏{‏من عذاب غليظ *‏}‏ لا يدع جهة من أجسامهم ولا قواهم إلا أحاط بها ولا تقوى على دفعه قواهم‏.‏

ولما بين جهل الإنسان في حالات مخصوصة باليأس عند مس الشر، والأمن عند ذوق النعمة بعد الضر، بين حاله عند النعمة مطلقاً ودعاءه عند الشر وإن كان قانطاً تكريراً لتقلب أحواله وتناقص أقواله وأفعاله تصريفاً لذلك على وجوه شتى ليكون داعياً له إلى عدم الأنفة من الرجوع عن الكفر إلى الإيمان، ومسقطاً عنه خوف الشبه بذلك والنسبة إلى الخفة وعدم الثبات، فقال معبراًَ بأداة التحقيق دلالة على غلبة نعمه تعالى في الدنيا لنقمه، ودلالة على حالة الإنسان عند مس النعمة من جهة يتوقعها بعد بيان حاله عند مسها بغتة من غير توقع تأكيداً لبيان جهله حيث جعل ظرف النعمة ظرفاً للإعراض من غير خوف من نزعها على قرب عهده بالضر‏:‏ ‏{‏وإذا أنعمنا‏}‏ مما لنا من العظمة والإحسان ‏{‏على الإنسان‏}‏ أي الواقف مع نفسه نعمة تليق بعظمتنا فمسه الخير ولم يعبر في هذا الجانب بما عبر به في الذي بعده إيذاناً بأن المعرض مسيء لمجرد الإعراض لا المبالغة فيه فقال‏:‏ ‏{‏أعرض‏}‏ أي انحرف عن سواء القصد إلينا عنا في جميع مدة النعمة- بما أفهمه الظرف، فلم يقيد تلك النعمة بالشكر بعد ما رأى من حلالنا، قاطعاً بأن تلك النعمة خير محض ظاهراً وباطناً فهو يستديمها، وربما كانت بلاء استدراجاً وامتحاناً ‏{‏وناء‏}‏ أي أبعد إبعاداً شديداً بحيث جعل بيننا وبينه حجاباً عظيماً حال كونه مال ‏{‏بجانبه‏}‏ أي بشقه كناية عن تكبره وبأوه وإعجابه بنفسه وزهوة وتصويراً له بمن كلمته فازور عنك والتوى، وأبعد في ضلاله وغوى‏.‏

ولما تقدم حال الإنسان عند مس الشر بغتة، بين حاله عند مسه وهو يتوقعه، فقال معبراً في جانب الشر بأداة التحقيق على غير عادة القرآن في الأغلب، ليدل على أنه لزيادة جهله على الحد يلزم الكبر وإن كان يتوقع الشر ولا يزال حاله حال الآمن إلى أن يخالطه وحينئذ تنحل عراه وتضمحل قوله‏:‏ ‏{‏وإذا مسه الشر‏}‏ أي هذا النوع قليله وكثيره لانتقامنا منه، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الإنعام أولاً دليلاً الانتقام ثانياً وذكر الشر ثانياً دليل الخير أولاً، وسره تعليم الأدب بنسبة الإنعام دون الشر إليه وإن كان الكل منه‏.‏

ولما كان تعظيم العرض دالاً على عظمة الطول، قال معبراً بما يدل على الملازمة والدوام‏:‏ ‏{‏فذو دعاء‏}‏ أي في كشفه، وربما كان نعمة باطنة وهو لا يشعر ولا يدعو إلا عند المس، وقد كان ينبغي له أن يشرع في الدعاء عند التوقع بل قبله تعرفاً إلى الله تعالى في الرخاء ليعرفه في الشدة وهو خلق شريف لا يعرفه إلا أفراد خصهم الله بلطفه، فدل تركه على عدم شره لما مضى وخفة عقله لما يأتي ومفاجأته للزوم الدعاء عند المس على عدم صبره وتلاشي جلده وقله حيائه ‏{‏عريض *‏}‏ أي مديد العرض جداً، وأما طوله فلا تسأل عنه، وهذا كناية عن النهاية في الكثرة‏.‏